Peirre Samaan2

بقلم بيار سمعان

يميل الانسان في علاقاته مع الآخرين ومواقفه من الاحداث نحو التشاؤم او التفاؤل او الموضوعية. والصفتان الاولى والثانية مرتبطتان بعوامل شخصية وتجارب حياته والمحيط العام كما ترتبط الموضوعية بدرجة الوعي والتجرّد والتمسك بالثوابت والتخلي عن المصالح الشخصية، احتراماً للحقيقة وسعياً الى الكمال.
لذا يطرح على مسامعنا ان الانسان متعدد الشخصيات كتعدد ادواره داخل المجتمع. لكن لا يمكننا ان نتناسى اهمية المحيط الذي نعيش فيه والاحداث التي تؤثر بالناس او يتأثرون بها.
فأنا متفائل بالنسبة لاستراليا، ليس فقط بسبب الديمقراطية التعددية واهمية المواطن الانسان فيها، بل بسبب النظام الذي يسأل ويحاسب  ويكافئ او يعاقب كل المواطنين على حد السواء، ويحاسب الكبار قبل الصغار من القوم.
وظاهرة مفوضيات التحقيق في الفساد والاعتداءات الجنسية على الاطفال وسوء استخدام الوظائف العليا.. كلها تحمل مؤشرات ان من يسأل ويحاسب ، يفتح المجالات الشاسعة للتعلم من الماضي ومعاقبة المسيئين حماية المصلحة العامة وثقة الناس بسيادة القانون .. وتضع هذه الظاهرة معايير اخلاقية ومسلكية للجميع.
لهذا انا متفائل بالنسبة لاستراليا ولمستقبلها ولتطور النظام فيها ولتحسين آداء السياسيين والمدراء والمواطنين بشكل عام. لكن هذا لا يعني اننا نعيش في جمهورية مثالية.
غير ان تفاؤلي هذا لا ينطبق على الاوضاع السائدة منذ نصف قرن واكثر على الاوضاع في لبنان ويتحول الى تشاؤم، اذا نظرت الى الاوضاع العامة في بلدان الشرق الاوسط، ولما يحدث على ارضها من مآسٍ ونكبات.
لست متشائماً فقط بسبب الحروب ومستوى الخراب وحجم الدمار وعمليات القتل والذبح والتصفيات والتهجير والنزوج ومحو معالم الماضي والغاء تاريخ الذي لا يخلو من حقبات حلوة ومجيدة، رغم الخلاف على  تحديد المجد والجمال!!
ان ما يثير المخاوف ويدعو الى التشاؤم هو التحولات العميقة في الوجدان العام لدى مجتمعات الشرق الاوسط، والتبدل في المثل والاخلاقيات لديها، اذ  ان ما يجري اليوم فرض مفاهيم وعقائد جديدة وغريبة، تتعارض مع المنحى الطبيعي لتطور المجتمعات ودخول العالم في فلسفة التنور التي تصف القرن الواحد والعشرين.
في الشرق تغيب الآن الوسطية بعد ان الغيت المساءلة والمحاسبة ، وسادت روح التكفير والتخوين والعمالة.
من يعترض فهو عميل
ومن ينتقد فهو مخابراتي
ومن لا يتقيد بنمط حياة وزيّ ومظهر ما فهو كافر.
ومن لا يمتدح حاكم غاشم متسلط، فهو مشاغب ومن يعترض على ظلم، فهو مخرب. ومن لا يصوم ويصلي او يتظاهر بهما، فذبحه حلال.
ومن لا يمتثل لارادة الاقليات المتسلطة والمتطرفة  فهو من الخوارج
ومن لا يتظاهر بالتقوى فهو كافر.
في العالم العربي اليوم، لا ضيم ان نقتل باسم الله ونذبح من اجله، ونضطهد ارضاءً لمشاعر العداء لديه، ونعتدي على الاقليات، لأن الله تحوّل ملكاً لأقليات ترسم صورته على شاكلتها ويعكسون قباحتهم على صورة الله. .
اقليات نزعت المحبة من قلوبها وحولت الله الى قاتل ومغتصب ومجرم.. ارضاءً لاهواء قادتها…
انا متشائم لأن الشرق الاوسط يفتقد الآن الى مشاعر المحبة والتسامح وقبول الآخرين..
انا متشائم لأن مواطناً في عقر بيروت يقتل آخر وسط الشارع حتى الموت، ولا يتحرك احد لفض الخلاف ومنع قتل بريء مستضعف.
وانني متشائم لأن اطفال لبنان اصبحوا يختطفون من اجل الخوات، ومتشائم لأن العدالة اصبحت نسبية ومذهبية، ولأن الطوائف والمذاهب يختصرها اليوم اشخاص واقليات متسلطة، ولأن المساس بهم يتسبّب بثورات اهلية وضرب الأمن القومي.
لقد اختصرت الاوطان بعد ان ضربت مفاهيم الوطن في عقول الاطفال واختصرت الشوارع والازقة الاوطان بكاملها. فما يحدث فيها يحرك الوطن كما انه يصور كل الوطن في داخله.
في لبنان اليوم ومع ارتفاع درجات الحرارة، ادرك المواطنون ان النفايات المنتشرة هناك وهناك اصبحت مشكلة، لكن تناسى الناس منذ ما قبل الاستقلال النفايات والاوساخ المتراكمة في نفوس معظم قيادات الوطن. لقد اعمت قلوبهم محبة وعبادة الزعامات، فكفوا عن رؤية وساخاتهم وشمّ روائح الفضائح العظيمة التي يرتكبونها باسم الشعب والطوائف والمذاهب.
صفّقنا لهم ولا نزال نضحي ونموت من اجلهم. نزداد فقراً ويزدادون ثراءً باسمنا وعلى حسابنا.
يختلفون على توزيع الحصص، فيعطل الوطن والحكم، ونقف وراءهم داعمين مواقفهم وشواذاتهم على حساب الحق والوطن.
رغم مئات آلاف القتلى وتشريد الملايين ويافطات الشهداء ومراسم التعزية اليومية. لا نزال نصفق ونضحي من اجل كراسيهم ومواقعهم.
وحدها العناية الالهية تحفظ بصيص الأمل في نفوس الاكثرية الصامتة، بعد ان تحوّل كل شيء الى «زفت ما عدا الطرقات» على حد قول العميد ريمون اده.
فليتفاءل من يريد ولتُعطى التبريرات كما يشاؤون.
الحقيقة المؤلمة ان الوطن العربي كله ينازع اليوم، ولست ارى ولادة جديدة او ربيعاً عربياً في المستقبل القريب.
لقد اعتدنا على رؤية النفايات ورائحة الموت والبارود.. واصبحنا نتلذذ بها. انني ابحث عن الحق واجده مغيباً في الوطن العربي.
pierre@eltelegraph.com