طوني عيسى
يبدو أنّ مسار اللعبة في سوريا يتسارع أكثر فأكثر، ولم يعد هناك مجال للتحليل في مستقبل سوريا. فما قاله الرئيس بشّار الأسد في خطابه الأخير كان واضحاً. إنه الإعلان الأول، والأشدّ وضوحاً، عن انتهاء سوريا «السابقة».
ينظر المحلِّلون إلى خطاب الأسد الأخير على أنه الأكثر صراحة. فالنظام السوري، كأيّ نظام آخر يحكم أيّ بلدٍ عربي، يخبّئ الحقائق ويغطّيها بالشعارات. ولكن، يبدو أنّ اللحظة قد دفعت الأسد إلى البدء بـ»تبليع» السوريين وغير السوريين حقيقة الوضع في سوريا، وما سيؤول إليه في ضوء الخطة المرسومة.
فما قاله الأسد هو الجرعة الأولى، وستليها جرعات أخرى ضمن روزنامة تتقارب فيها المواعيد وفقاً لِما تقتضيه الظروف السياسية والعسكرية في سوريا، وبناء على تطوُّر المعطيات الإقليمية والدولية. لكنّ الأسد سيصِل في النهاية إلى الإعلان عن تقسيم سوريا واقعياً، تاركاً للظروف أن تظَهِّر التقسيم الرسمي.
منذ اللحظة الأولى للحرب السورية، مطلع ربيع 2011، كان الأسد وسائر حلفائه في المحور الإيراني يتصرَّفون وفق قاعدة واضحة: الأولوية هي للاحتفاظ بسوريا كاملة. ولكن، إذا شاءت الظروف أن يخسر هذا المحور بعض المناطق- وكان ذلك مرجّحاً- فالبديل هو الإمساك بـ»المناطق الحيوية» والتخلّي عن المناطق الأخرى.
والمناطق الحيوية في منطق الأسد وإيران و»حزب الله» هي في الدرجة الأولى الساحل الذي يشكّل المعقل العلوي، ثم العاصمة. وتالياً، المناطق التي تربط الساحل بدمشق على امتداد الحدود مع لبنان. ويفضِّل النظام أن يبقى على تماسّ مع إسرائيل. فهذه ورقة لها ثمن إقليمي كبير.
كما أنّ السيطرة على الجولان تتيح ثلاثة أهداف عسكرية:
– التمتع بامتيازات عسكرية استراتيجية في الداخل السوري.
– السيطرة على الحدود الجنوبية المحاذية للبنان والتماسّ مع «حزب الله» في هذه المنطقة.
– تأمين الحماية الفضلى للعاصمة من الجهة الجنوبية (درعا).
وفي الأشهر الأخيرة، تلقّى الأسد تعليمات إيرانية باللجوء نهائياً إلى الخطة «ب»، أي بالتوقّف عن دفع أي أثمان للاحتفاظ بمناطق «لا أمل في استعادتها»، والتركيز على «سوريا الحيوية». وهذا تماماً ما قاله الأسد في خطابه الأخير، مع إطلاق إشارة خطرة إلى بدء مرحلة التبادل الديموغرافي.
وأبرز النقاط الحسّاسة في الخطاب هي الآتية:
1- الاعتراف بالتخلّي عن مناطق للتشديد على أخرى: «لن نستطيع الانتصار في المعارك كافة»، و»نتخلّى عن مناطق من أجل الحفاظ على مناطق أخرى»، و»حدَّدنا أولوياتنا في المعارك بأسباب مختلفة». وهذا الاعتراف يعني دعوة الجيش، مباشرة، إلى الانسحاب من مناطق معيَّنة والاكتفاء بالدفاع عن أخرى.
2- الكشف عن رغبة في «سَوْرَنَة» المقاتلين غير السوريين الذين يحاربون في سوريا إلى جانب النظام: «الوطن ليس لمَن يسكن فيه أو يَمَلُّ جواز سفره، بل لمن يدافع عنه ويحميه». وواكبت ذلك إشادة الأسد بمشروع التطوير العقاري في المزّة.
وهو مشروع يقضي بإخراج السكان من هناك، وينفَّذ برعاية إيرانية. ويوحي ذلك بأنّ الأسد سيمنح المقاتلين غير السوريين، من حلفائه، امتيازات في الامتلاك والتجنّس. وسبق ذلك كلام في سوريا على إحراقٍ متعمَّد للقيود العقارية في حمص.
3- القول إنّ محاربة الغرب للإرهاب «نفاق». وهذا يعني، في الترجمة السياسية، أنّ الأسد يُقرُّ بالعجز عن القضاء على التنظيمات المتطرِّفة التي يواجهها، والتي سيطرت على مناطق واسعة في الشمال والشرق.
والأسد على حقّ في هذا الكلام، إذ إنّ الغرب يتعاطى بشكل مُلتبس مع ما يسمّيه «الإرهاب». فهو يعلن عليه الحرب عندما يهدِّد أمنه، لكنه لا ينفِّذ خططاً جدّية للقضاء عليه، بل يعطيه الفرص للصمود والانتصار أحياناً في سوريا والعراق وسواهما.
إذاً، الأسد «بقَّ البحصة» التي كانت في فمه طوال السنوات الأربع الفائتة. وستليها «بحصات» كثيرة في الأوقات المناسبة. فـ»سوريا السابقة» انتهت. وكل أطراف الصراع في سوريا باتت تعرف أنّ سَعي أيّ منها إلى السيطرة على كامل الرقعة السورية السابقة بات مجرَّد سراب. والجميع يستعدُّ اليوم لِما بعد سوريا المنتهية.
لذلك، سيكون التحدّي: هل يغرق الجميع في حروب لا تنتهي، تُفْنيهم جميعاً، على جثمان «سوريا السابقة» المهترئ، أم يتصافح الجميع في الدويلات الوليدة ويترحَّمون على الماضي- أو يتحسَّرون- ويتصالحون ويتعايشون؟