ألان سركيس
في خضمّ الحرب الكبيرة الدائرة في المنطقة، تدفَع الأقلّية المسيحية التي هي أساس هذا الشرق ثمنَ المعارك العسكرية، في وقتٍ تتّخذ أوروبا وروسيا مواقفَ مستنكرة للتهجير المستمرّ وإفراغ الشرق من مسيحيّيه، من دون ترجمةٍ عمليّة على أرض الواقع. وعلمَت «الجمهورية» أنّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف توَجَّه برسالةٍ إلى نظيره اللبناني جبران باسيل منذ نحو 3 أسابيع، للبحث عن مرشّح تسوية للرئاسة بعدما تبيَّنَ أن لا حظوظ للعماد ميشال عون.
شكّلَ الغرب عموماً، وأوروبا خصوصاً، المثالَ الأوّل لمسيحيّي لبنان، حيث كان الموارنة سبّاقين إلى نسجِ العلاقات السياسيّة المتينة مع فرنسا، فيما كانت علاقتهم مع الفاتيكان روحيّة دينيّة تربوية استفادوا منها لتطوير المجتمع، حيث ذهبَت الأجيال المارونية الأولى الى الفاتيكان منذ العام 1470، وتعلّمت وعادت وأسَّست المدارس التربويّة المارونيّة قبل الإرساليات الأجنبيّة. ومطبعةُ دير مار قزحيا أكبرُ شاهد على النمط التطوّري الماروني والمسيحي. أمّا مسيحيّو سوريا والعراق وبقيّة الدوَل العربية فكان توَجّههم أكثر نحو الطروحات العروبية، وروسيا نظراً للرابط الديني.
مع التحوّلات التي طرأت على المنطقة العربية بعد سقوط الأنظمة وبداية الربيع العربي، وانحراف مسارِه نحو التطرّف والحروب الأهلية، وتفَشّي ظاهرة «داعش» وأخواتها، اعتبرَت روسيا أنّ أوروبا وأميركا لا تكترثان بأهمّية ودورِ الوجود المسيحي في الشرق، وتنظران إلى لبنان كمنطقة ترانزيت، يلجَأ إليها مسيحيّو الشرق للهجرة إلى أوروبا وأميركا وكندا وأوستراليا.
وهذه الظاهرة أغضبَت الكنيسة الأرثوذكسية الروسيّة التي ضغَطت من أجل تحرّك السلطات الروسية لحماية ما تبَقّى مِن وجود مسيحي في سوريا والعراق، وإنقاذ مسيحيّي لبنان من التخَبّط السياسي الذي يعيشونه والذي سيَقضي على دورهم السياسي إذا ما استمرَّ هذا المسار الانحداري، ويفقد الشرق بذلك القاعدةَ الأكبر والأفعل للوجود المسيحي.
تَطمح روسيا للَعِب دورٍ متقدّم والظهورِ بمظهر الحامية للأقلّيات المضطهَدة، على رغم أنّ الدوَل الكبرى لا تتحرّك إلّا خِدمةً لمصالحها، فتحالف روسيا مع النظام السوري تحالفُ مصالح، وليس لأنّه نظام عَلويّ أقلّوي. لكن لا يمكن إخفاء أنّ الوجود المسيحي يَهمّ روسيا في مكان معيّن. وأمام الاجتياح الداعشي الكبير للمنطقة، وزيارات بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، صاحب الخطاب العنفواني، إلى موسكو، يبدو أنّ ملامحَ تحَرّكٍ روسيّ بَدأت تظهر في هذا السياق.
تَعلم الديبلوماسيّة الروسيّة جيّداً أنّ بوصَلة حركتِها الأولى يجب أن تمرّ عبر الساحة اللبنانية، وتسهيل انتخاب رئيس الجمهورية. وفي هذا السياق، تؤكّد مصادر ديبلوماسيّة أنّ «الضغط الروسي في اتّجاه انتخاب الرئيس موجود، وهو بدَأ منذ مدّة بتنسيق مع الفاتيكان، لكنّ المشكلة الأساسيّة التي تواجهها هي زحمة الملفّات الدولية وعلى رأسِها اليمن وسوريا، وفقدانُ النظامِ السوري، حليفِها الأوّل في المنطقة التأثيرَ على الساحة اللبنانية، واحتكار إيران النفوذ».
وفي السياق، علمَ أنّ لافروف توَجَّه برسالةٍ إلى باسيل عبرَ القنوات الديبلوماسيّة منذ نحو 3 أسابيع، يؤكّد فيها أنّ روسيا تدعو الفريقَ المسيحيّ المعطّل للاستحقاق الرئاسي، إلى تسهيل إجراء الانتخابات، على اعتبار أنّ التعطيل ما زال مستمرّاً منذ 25 أيار 2014، وأنّه تبيَّنَ أنّ رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون لا يتمتّع بحظوظ كبيرة للوصول إلى الرئاسة، كما أنّه مِن غير الممكن فوزُ رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، لذلك، يجب على الرَجلين إفساح المجال للبحث عن مرشّح تسوية مقبول، والإقلاع عن التعطيل».
ولفتَت المصادر إلى أنّ «روسيا تَعتبر أنّ المسؤول الأوّل عن تعطيل الرئاسة هو عون، بينما جعجع أبلغَ إلى الروس استعدادَه للبحث عن مرشّح تسوية لإنقاذ الرئاسة، وأنّه لا يقف عقبةً في وجه إنجاز الاستحقاق الرئاسي».
وتقول المصادر الديبلوماسية: «مخطئٌ مَن يظنّ أنّ العلاقات الروسيّة – الإيرانية على أحسن ما يرام، وأنّ روسيا تستطيع الضغطَ على إيران لتسهيل انتخاب رئيسٍ لجمهورية في لبنان»، مشيرةً إلى أنّ «الخلاف على توزيع الثروات في بحر قزوين لا يزال مستمرّاً بين البلدين، والكلام عن أنّ إيران هي ورقةٌ في يد روسيا غيرُ صحيح، لأنّ طهران كانت دائماً حليفةَ واشنطن، وشكّلت السدَّ المنيع في وجه تمدُّد الشيوعية، والثورةَ الإسلامية الإيرانية شكّلت المضادَّ الحيويّ للفِكر الشيوعي، حيث إنّ الفِكرَ الإسلامي هو النقيض للشيوعي، وبعد الخلافات الماضية، عادت إيران لتتصالح مع أميركا والغرب».