فاطمة مارديني
يبقى بروفايل المغترب « المهاجر او اللاجىء « هو نفسه في الذاكرة الجماعية الوطنية, شخص غني و سعيد , تقع على كاهله مساعدة عائلته ,والاستثمار في بلده الام , نجا بنفسه من أهوال الحرب والتشرد فلا بد من دفع ضريبة ذلك . هذا ما يعتقده أهلي عن حياتي في استراليا , عشر سنوات مضت على وصولي , أمور كثيرة تغيرت في حياتي, حتى هويتي التبست علي , كنت ايمان من السودان أصبحت من جنوب السودان, فلقد استقل الجنوب في غيابي ولكن الاحوال المعيشية لم تتحسن للجنوبيين ومن بينهم أهلي , كنت متزوجة مع ثلاثة أولاد , أصبحت أماً عزباء مع ثلاثة أولاد. كنت حارسة عمارة في مصر مع شهادة تمريض , أصبحت عاملة نظافة في مستشفى حكومي مع شهادة تمريض غير معترف بها .
تظهر صوري على الفيس بوك سعيدة مع أولادي في الحدائق العامة والمولات , يحسدني أهلي واصدقائي , كيف لا، وكانت قد انتشرت خبرية بين الجنوبيين من كم سنة أننا نفرك الجدران في استراليا فتدر علينا المال الوفير , كاد يُغمى عليّ من الضحك عندما عرفت انهم يقصدون آلة الصرف المالي «الاي تي ام «. كل اتصال هاتفي معهم على السكايب يحمل طلبات لا تنتهي «أخاك مريض وعايز فلوس للمعالجة , واختك عايزة تتزوج ويلزمها مصاريف الجهاز وحفلة الزفاف, والدك عايز يحج اذا فيك ترسلي له مبلغ مصاريف الرحلة !» , كأنني اتبوأ منصب حاكم المصرف المركزي في كانبيرا . ولا مرة سألوا « هل انت سعيدة , كيف تتدبرين أمورك, هل تعانين من الوحدة, هل تشتاقين الى بلدك , امك , صديقاتك؟» لا هذه الاسئلة لا تخطر على بالهم , فاستراليا بنظرهم هي جنة الانسان على الارض , تدر جدرانها السحرية المال, أعرف أوضاعهم المعيشية المزرية , فالاحوال الاقتصادية بعد الاستقلال عن الشمال لم تتحسن , فثوار الامس أصبحوا لصوصا برتب نواب ووزراء !
تقدمت بطلب اللجوء الى السفارة الاسترالية في مصر , كنت كل مرة اذهب الى هناك , انظر الى شاشة عملاقة في صالة الانتظار تبث فيلما وثائقيا عن استراليا , كنت اشاهد المناظر الطبيعية الخلابة , شواطىء رمالها صفراء كالذهب , شوارع نظيفة كأنها لم تطأها قدم انسان ,موطفون في المطارات والدوائر العامة لاتغيب الابتسامة عن وجوههم , اشعر بالفرح ويبدأ خيالي برسم صورة وردية عن حياتي المستقبلية في هذه البلاد , تنسيني فظائع الحرب في وطني , والتشرد في مخيمات اللاجئين في كينيا , والنظرة الدونية للعمال السودانيين في مصر .
ولم تمض السنة الاولى من وصولي حتى انقلبت حياتي رأسا على عقب , تطلقت من زوجي , فبعد وصولنا بسنة وبسبب عدم عثوره على عمل لعدم اتقانه اللغة الانكليزية بدأت حالته النفسية تتدهور , نصحته بمراجعة ا خصائي نفساني ولكنه رفض , وقال « انا لست مجنونا « , وبدأ بمعاقرة الخمر ولعب القمار , ووصل به الامر الى تعنيفي وضربي ,فطلبت مساعدة الشرطة بعد تهديدي بالقتل بس شكوك لا اساس لها من الصحة , فيوم يتهمني بأنني « سأفلت وأنحل « مستغلة الحرية المعطاة للمرأة هنا , ويوم يتهمني بأنني لا أحترمه كما كنت في السودان , فلم يعد يشعر انه الرجل الآمر الناهي في البيت , ومرة يرفض صداقتي لنساء سودانيات بحجة انهن سيشجعنني على اعتنقاء المسيحية خصوصا أن الكثير من العائلات السودانية المسلمة وللحصول على تأشيرة الدخول الى استراليا اعتنقت المسيحية لان الكنائس كانت نشطة في السودان في مجال التبشير والمساعدة في الحصول على تأشيرات الهجرة .
عشت على اعانة البطالة من الحكومة , وحصلت على حضانة اولادي , لم تقصر الحكومة في اعانتي , فأولادي يتعلمون في المدارس مجانا , ونحصل على الطبابة مجانا, ويأخذون رواتب من الحكومة , شعرت انني في بلد يحترم حقوق الانسان , ولكن مع بلوغ ابني الصغير الخمس سنوات بدأ سنتر لانك ( الضمان الاجتماعي )يطالبني بالبحث عن عمل,ولان شهادة التمريض غير معترف بها هنا وعلي اعادة الدراسة من البداية , وجدت وظيفة كعاملة نظافة في احد مستشفيات المنطقة , فمهنة التنظيف محترمة هنا وليس كبلادنا حيت ينظرون اليها نظرة دونية,و يدفعون رواتب جيدة ولها كل التأمنيات الصحية وتعويضات نهاية الخدمة كباقي المهن , صديقتي وهي سيدة انكليزية زوجها يملك مطعما تعمل في التنظيف كعمل اضافي»لوكانت في احدى الدول العربية لتقدمت لانتخابات ملكات الجمال « , ولكن صديقاتي السودانيات بدأن باستفزازي وتعييري . اما اختي في السودان وهي التي تحلم دائما بـتأشيرة سفر تأخذها حتى الى غواتيمالا , فتقول « رحت استراليا عشان تنظفي؟!»