(الحلقة الثانية)
تواجه اوروبا ثلاث ازمات مصيرية تتمحور جميعها حول الحدود الوطنية لكل بلد فيها.
في الحلقة الماضية عالجت انعكاسات هجرة المسلمين الى اوروبا على المستويات الاجتماعية والامنية والديمغرافية عليها وبالتالي على سلامة حدودها.
وسأستعرض اليوم اهمية الازمة اليونانية واحداث اوكرانيا على جغرافيا وحدود واستقرار اوروبا.
< الازمة اليونانية:
مسألة الحدود هي ايضاً في صميم الازمة اليونانية، اذ يتفرع عنها مسألتان:
الاولى صغرى والثانية اكثر اتساعاً وشمولاً.
اما الصغرى فتتعلق بالسيطرة على رأس المال. فالاتحاد الاوروبي هو ملتزم باقامة سوق مالية واحدة حيث يمكن تعويم رأسمال الدول الاعضاء بحرية.
لذا عمدت مؤخراً الحكومة اليونانية الى نقل اموال طائلة خارج البلاد واستودعتها في مصارف عالمية، خشية ان تنعكس الازمة المالية الحالية على اقتصاد البلاد، وتدمره بالكامل. فقد تذكرت اليونان ماذا جرى لقبرص خلال ازمتها ولم تشأ ان ترتكب نفس الاخطاء او تلاقي نفس المعاملة، عندما ارغمت على تجميد اموالها بطلب من الحكومة الالمانية التي كانت قد قرضتها اموالاً طائلة لم تتمكن من تسديدها ضمن المهلة المحددة.
فالاتحاد الاوروبي لا يمنع نقل اموال بلد ما الى آخر ضمن الاتحاد او خارجه، اذ ان حركة الرأسمال هي امر مباح وقانوني حسب قوانين الاتحاد الاوروبي.
في اي حال، ما هو المبدأ الاساسي هنا؟
النقل الحر للرأسمال ام سلطة الاتحاد الاوروبي لمراقبة وتحديد هذه الحركة؟
وهل الشعب اليوناني هو مسؤول عن افلاس حكومته، ليس فقط في الالتزام بسياسة التقشف، ولكن ايضاً من خلال الضوابط التي فرضتها الحكومة اليونانية على الشعب بطلب من الاتحاد الاوروبي لمنع حركة امواله والحد من القدرة على استعادته؟
فإن صحت هذه المقولة تصبح سلطة الحكومة اليونانية مشروطة كما يعاد رسم حدود رمزية تمنع خروج اموال اليونان الى ما وراء الحدود.
المبدأ الاساس للاتحاد الاوروبي هو ان حرية التجارة من الناحية المبدئية، لا يعني ان حدود كل بلد تصبح منطقة تفتيش لتحديد ما يمكن من السلع التجارية ان تدخل او تخرج من بلد ما، وما هي بالتالي التعرفة الجمركية لكل مادة تصدر او تخرج. وهذا يعني ان الحق في تقريرالمصير لم يعد يشمل الحق في السيطرة على الحدود لكل بلد.
لكن ما يخشاه الاوروبيون هو ان تؤدي الازمة اليونانية ليس الى فشل الحكومة في تسديد ديونها لصندوق النقد الدولي، بل فقدان القدرة على مماشاة الدول الاوروبية مما يرغم الدول الاوروبية الى اعادة تعويم الاقتصاد اليوناني على حساب الاقتصاد الاوروبي، وفي اسوأ الحالات ان يبدأ انفراط الاتحاد من جراء التخلف الاقتصادي وعدم القدرة على إيفاء شروط الاتحاد الاقتصادية.
> الأزمة الاوكرانية وحرمة الحدود
واخيراً، هناك القضية الاوكرانية وهي لا تعني اوكرانيا وحدها، بل تمس في جوهر التفاهم الاوروبي الذي يقضي بضمان حدود كل دولة من اجل ضمان السلام في اوروبا. لهذا يبدو ان الموقف الاوروبي حيال ما يجري في اوكرانيا متخذ قبل ان تقع هذه الازمة، لأنه لا يمكن تعديل حدود اي بلد اوروبي لأن الاستقرار مرتبط بثبات الحدود واحترامها. ولقد حافظت اوروبا على مبدأ سلامة الحدود منذ سنة 1945 حتى سنة 1992. ثم جاء سقوط الاتحاد السوفياتي ليغير الحدود داخل اوروبا بشكل جذري. فانتقلت حدود الاتحاد السوفياتي شرقاً وشمالاً.
كما ادت نهاية الشيوعية الى خلق ثمان دول جديدة كانت تسير في فلك الاتحاد السوفياتي، معظمها في وسط وشمال اوروبا، وحصلت 15 دولة شيوعية سابقة على استقلالها مجدداً بما فيها روسيا نفسها.
فسقوط الاتحاد السوفياتي عدل في واقع الحدود، خاصة مع الطلاق القسري بين دول سلوفاكيا وجمهورية تشيكيا .
ربما الحدث الأهم هو الصراع بين الطبقة الحاكمة من مخلفات الهيمنة الشيوعية في يوغسلافيا مما تسبّب بتقسيم كيان واحد الى مجموعة دول مستقلة ونشبت حرب لترسيم الحدود الجديدة لكل منها. فانفصلت كوسوفو عن صربيا. واستغلت روسيا هذا التغيير في الحدود لاعادة رسم حدود جورجيا في الشمال والسيطرة على شرق اوكرانيا. كذلك جرى تعديل الحدود بين ارمينيا واذربيجان.
وفي حالة اخرى متصلة جرى تقسيم قبرص الى قسمين: واحدة يونانية واخرى تركية. وسمحت اوروبا بانضمام القسم اليوناني الى الاتحاد.
واللافت انه منذ انتهاء الحرب الباردة جرى انتهاك حرمة الحدود مراراً وتكراراً من خلال انشاء حدود جديدة، خاصة للدول التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي او بعد تفكيكه مع غياب السلطة الشيوعية الضاغطة عليها، وقد رحب الاوروبيون بهذه التغييرات الجغرافية الحدودية وفي بعض الحالات ساهمت اوروبا بخلق بعضها كما حدث في كوسوفو.
لكن تبقى الازمة الاوكرانية بدون حل، اذ لا يزال الصراع على الحدود في شدته. اذ تخشى اوروبا والولايات المتحدة دعم تغيير الحدود الذي تسعى روسيا الى فرضه في شرق البلاد.
ولا يصعب التكيّف ان عدم استقرار الحدود في اوروبا كان دائماً مصدر اضطرابات وحروب. ويخشى الاوروبيون ان يؤدي الصراع حول اعادة ترسيم حدود اوكرانيا الى اشعال حرب جديدة في المنطقة.
بالواقع اوروبا اليوم يتجاذبها تياران: الاول هو الرغبة ان تكون احدود قابلة للاختراق دون ان تفقد الدولة القومية حقها في تقرير المصير. لكن المعضلة تكمن في التناقض بين السيطرة على الحدود القائمة وحرية التحرك بين الدول دون رقابة او اعتراض.
فالاتحاد يريد ان يقلّل من اهمية الحدود، كما انه يريد ان تكون هذه الحدود غير قابلة للطعن بها .
فالتناقض هو بالواقع قائم بين مفهوم الوحدة الاوروبية والاندماج الكامل من جهة وبين الاستقلالية التي تحفظ التمايزات العرقية والثقافية وفرادة كل بلد.. وهذا يعني حماية واحترام حدود الآخرين.
وللوهلة الاولى يبدو ان دولاً اوروبية عديدة تريد ان تستعيد السيطرة على حدودها دون شروط مسبقة.
وبطريقة اخرى فان ازمة هجرة المسلمين التي قد لا تتوقف مع استمرار الصراعات والحروب في الشرق الاوسط، بالاضافة الى الازمة اليونانية والصراع الدائر في اوكرانيا تترابط معاً لتعيد طرح قضية السيادة على الحدود.
ان مسألة الحدود، في الظروف التي تشهدها اوروبا اليوم يعيد طرح قضية الوحدة الاوروبية من خلال اعادة ضبط حدود كل بلد دون المساس بجوهر الوحدة التي يسعى من خلالها الاوروبيون الى توحيد العملة والاقتصاد والمصير المشترك فهل ستنجح اوروبا في وجه هذه التحديات؟
اذا نظرنا الى الازمة الاوروبية ككل مترابط نجد انها متجذرة دائماً بالحدود. ان محاولة الغاء هذه الحدود لصالح الوحدة الشاملة هو امر سهل ومحبب نظرياً.
لكن النظريات غالباً ما تتعارض مع الواقع. هذا الواقع يبدأ عملياً عند حدود كل بلد اوروبي على حدة، دون ان نتناسى ما يجري وراء هذه الحدود.