وديع شامخ
رئيس تحرير مجلة «النجوم»
حين أشتد عود صباي في مدينتي اليصرة وفي تاريخ مخصوص وهو اعلان نتائج الإعدادية حينها إذ صرت مهيأ لمغادرة عالم الدرسة الاعدادية بكلّ صخبها وجديتها ومرحها، مرحلة فاصلة خطيرة أن تترك رفاق صباك ومدرستك طوال 6سنوات بعد مرحلة التعليم المتوسط -حسب نظام التعليم في العراق-، فهذه التجربة ليست بسهلة على قلب مرهف بالاحساس كقلبي ولكن للزمن فعله في النسيان والسير الى الأمام فجاءت نتائج القبول في الكليات والمعاهد لأرى أسمي في قوائم كلية الإدارة والإقتصاد – جامعة البصرة.
لم تكن بناية الكلية تبعد عن بيتي كثيرا فهي تحتل مجمع كليات باب الزبير وتضم كلية الآداب والمرصد الفلكي «القبة السماوية» وبعض دوائر الجامعة الخدمية كدار الحكمة للطباعة, مع بنايات عديدة «أقسام داخلية» مخصصة لمبيت الطلبة والطالبات من محافظات العراق الدول العربية والاجنبية.. حيث كان العراق «القومي جدا» يعطي للطلبة العرب مخصصات مالية مغرية وسكن مجاني ووجبات طعام بسعر رمزية وكانوا مميزين جدا عن الطلبة العراقيين سواء بإضافة 10 درجات على معدلهم العام او بمنحهم المالية..
وفي يومي الأول أتذكر قلقي ممزوجا بروح المغامرة وانا ادخل استعلامات الكلية مع حشود من الصبايا والصبية بعمر الورد مرتدياً لوني المفضل.. القميص الاحمرالموشح بالبياض مع البنطال الأسود وحذاء الروغان اللّماع الأسود.
كانت الفرحة ممزوجة بالدهشة والخوف والقلق والحياء ظاهرة على مُحيانا ونحن ندخل لاأول حصة للدرس في القاعة رقم 28 وهي عبارة عن مدرج مهيب تحيط به دكة نصف دائرية حيت تنتصب منصة وكرسي وخلفهما سبورة خضراء بوجهين يتحركان يديوياً.. حيث يكتب الاستاذ عليها بالطباشير الزيتي وحين تنتهي الاولى يستدعي الثانية.. وهذا بطر لم نألفه في مدارسنا السابقة إطلاقا.
انتهى اليوم الأول بتعارفنا وبدأنا رحلة العمر الجميلة ونحن نرتدي «الزي الموحد» البنطلون الرصاصي والقميص الابيض صيفا والجاكيته الزرقاء شتاءً. وكأننا نفرح بملابس العيد ونحن اطفالاً..
اليوم الثاني وفي زحمة الخروج من قاعة المحاضرات، وكان من الصدف ان مقاعد القاعات مرتبة على الحروف الابجدية، فكان حظي من الابجدية ان اكون في الاخير «واو» ومعي في الصف الأخير طالب أسمه «ياسين».
تبادلنا الابتسامة في قاعة الدرس وخرجنا معا في الاستراحة..
قبالة المطعم الصغير التقينا وكانت فاتحة عمر طويل..
أنا ياسين
انا وديع
اين تسكن: في دير ياسين؟ وكانت اول قفشاته الرائعة.لم يكن فلسطينيا كما يبدو من ظاهر المكان، ولكنه كان من ضاحية شمال البصرة تدعى «الدير» ربما لها جذور مسيحية بوجود دير لقديس هناك أكلته الفتوحات، وما تبقى من آثاره سلالة صديقي ياسين الذي يقطر محبة ونبلاً ووفاءً.
هكذا بنينا علاقتنا على صخرة وحملنا روحينا راية للفرح والشباب، وكان العشق غايتنا …
لياسين طاقة غير تقليدية على استدعاء الكوميديا في أشد المواقف جديةً، وبرغم انه يكبرني بعشر سنوات ولكنه يبدو بعمر الورد وهو يكرر لي في اعترافات شخصية «أنا في خريف العمر» وخصوصا عندما يفلت عنان عواطفي وأتأخر عنه لأكون مع زميلة او مشروع صديقة او نزوة ما. حتى أن الاستاذة سهام البصام تقول لياسين «دع وديع يتمتع بوقته وشبابه»!
شكّلنا ثنائيا مرحا وخماسياً رائعاً مع أصدقاء الروح «كريم عبد الكاظم وعادل رحيمة والراحل داخل حسن». لقد كنّا نكون على درجة من التقارب حتى غدت بيوتنا مضافة دورية لمبيتنا سوياً وخصوصا في أيام الأمتحانات.. أتذكر بحب بيت ياسين ومضيفهم العامر حيث نمضي الليالي بالدراسة والمرح مع ضيافة كريمة من لدن عائلة «الراحل العزيز الحاج طه عودة وزوجته»..
لا اتصور أن علاقتي بياسين من العلاقات التي يأكل الزمن من جرفها وتُذوب الشمس شموع فرحها .. علاقتنا أكبر من الزمن فلم يكن الخبز والملح والعشرة ما يميز علاقتنا بل كان الحب العميق والانتماء للبراءة والفرح قد عمّق جذورها حتى باتت علاقتنا نخلة برحية على ضفاف شط العرب ..وكانت البصرة هي أمنا الكبيرة التي شهدت شقاوتنا بباراتها ومطاعهما ونواديها ومقاهيها وازقتها وعشارها وشطها العظيم وخضرة روحها من أبي الخصيب جنوبا حتى ملتقى النهرين العظيمين «دجلة والفرات» في منطقة القرنة شمالاً. لقد كان الطريق من ساحة سعد الى الدير شاهداً على مغامراتنا وحوادث السير التي كان بطلها الهمام ياسين دائما، وكنا عندما نشاهد حادث اصطدام بين سيارتين يقف يا سين ضاحكا «كيف فاتتنا هذه الحادثة !!!!».
ومن ابرز ما ميز علاقتنا هو الدفء والصدق وهمنا الوطني المشترك ووعينا حين كان بوحنا مشترك وتعليقاتنا اللاذعة على ممارسات النظام آنذاك في الإحتفالات النيسانية المارثونية وغيرها.
لقد نلنا احترام اساتذتنا وشكلنا معهم صداقات مميزة وكسبنا حب زملائنا وزميلاتنا.
(يتبع)