إنتهَت زيارة البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي إلى دمشق، بعدما خَرقَ مرّةً جديدة كلَّ الخطوط الحُمر، واضعاً في سُلّمِ اهتماماته «رعيّتَه» قبل حدود الدوَل ومشاكلِها السياسيّة.
يتضاءل تأثير الجغرافيا التي حكَمت العلاقات اللبنانيّة – السورية عموماً، والمارونية – السورية خصوصاً، على السياسة، بعد الثورة التي قلبَت التوازنات والمقاييس، لكنّه بدأ يزداد على الأمن.
سوريا لم تُغيّر موقعَها على الخريطة، وبالتأكيد بلد الأرز الذي شُيّدت أساساتُه على صخور جبال لبنان، صامد على شواطئ البحر المتوسّط وسط العواصف التي لم تُغرِق السفن الفينيقيّة التي انطلقَت من موانئ جبيل وصيدا وصور، تجوب العالمَ مصَدّرةً الحرفَ، وتشقّ طريقَها وسط الأمواج العاتية لتصلَ الشرق بالغرب.
لم تتجاوز زيارة بطريرك الموارنة الى سوريا الـ 40 ساعة، لكنّ مفاعيلها الرَعويّة والكنسيّة تخَطّت الساعات. وفي جوجَلة البطريركية المارونية للنتائج التي حصَدتها، فإنّها ترى أنّ الزيارة الثانية الى العاصمة السوريّة، «نجحَت في الابتعاد كلّ البعد عن السياسة، فلم يستطع حلفاء النظام السوري في لبنان أو النظام في دمشق إستغلالها لصالحِهم،
وفي هذا تأكيد أنّه باتَ بمقدار البطريرك الماروني أن يزورَ سوريا، الخصمَ التاريخي للموارنة، من دون أن يغرقَ في مغطس السياسة، والسبب الرئيس في ذلك، أنّ مقرّ البطريركية المارونية مركزه بكركي، بخلاف مقرّ بقيّة البطاركة في سوريا، الذين لا يستطيعون تجاهلَ مختلف الأطراف السورية المكوّنة للمجتمع.
وتُراهِن بكركي على هذه الزيارة، والزيارات المتتالية، لكسرِ البُعد والجفاء بين مسيحيّي لبنان وسوريا. فالمسيحي اللبناني تضامنَ مع الكلدان والآشوريين والأرمن والسريان، لكنّه لم يصل الى درجة التضامن نفسها مع مسيحيّي سوريا، لأنّه لم ينسَ قصصَ وروايات الضبّاط السوريين ومن ضمنِهم الضباط المسيحيّون الذين كانوا يقفون على الحواجز، ويضَيّقون على الشعب اللبناني والمناطق المسيحية المحرّرة. لكنّ الزمنَ تغَيَّر، وسقطت الجدران التي بناها النظام السوري بين مسيحيّي لبنان وسوريا أيام الوصاية.
وفي حسابات البطريركية المارونية، «أتت زيارة الراعي لتُكرّس وحدةَ الموقف بين كنائس الشرق، بمباركة الفاتيكان الذي يعمل على هذه الوحدة منذ فترة، خصوصاً أن لا مكان لخلافات المسيحيين في زمن الحروب الكبيرة».
يصفُ النائب البطريركي العام المطران بولس الصياح الذي رافقَ الراعي إلى دمشق، الزيارة بـ»العظيمة، والناجحة»، فقد سار الراعي مع أهلِه ورعيته، وأُعِدّ له إستقبال كبير، فلمّ يصدّق مسيحيّو سوريا أنّ البطريرك بينَهم، على رغم أنّها الزيارة الثانية، بعد زيارته الأولى التي شاركَ خلالها في تنصيب البطريرك يوحنا العاشر اليازجي. أمّا الآن فقد امتزجَت دموع الفرح بدموع الحزن على الوضع المأسوي الذي وصلَ إليه المسيحيون».
لم يُعقَد أيّ لقاء بين الراعي والمسؤولين السوريين، والهدف الأساس كان المشاركة في القمّة الروحية ولقاء الرعية التي نَقلت إليه حسب الصياح همومَها، «فالخوف لا يفارق مسيحيّي سوريا، وقد هُجِّرَ وقتِل قسمٌ كبير منهم، ويُصيبهم ما يصيب جميعَ أبناء سوريا، لكنّ لديهم تصميماً على البقاء والصمود والعودة إلى بَلداتهم بعد استتباب الوضع الأمني».
كسَر الراعي الطوقَ الذي كان يفرضه النظام السوري مانعاً التواصل بين مسيحيّي سوريا ولبنان، خصوصاً أنّ النظام باتَ منهَكاً، ويفقد تدريجاً السيطرة على البلاد، لكنّ القمّة الروحية لم تعطِ إجابةً تُطَمئن المسيحيين الى مصيرهم ومستقبلهم، مع العِلم أنّ المصيبة كبيرة، لكن لا يكفي تعداد المأساة، إذ إنّ المسيحي المهجّر أو النازح يحتاج كلَّ الدعم ولا تكفيه بيانات النَعي والاستنكار.
لا تأثير سياسياً لزيارة الراعي، وإنْ كانت تهدف إلى توحيد الموقف المسيحي المشرقي، لكنّ هذا الهدف لا يكتمل من دون انتخاب رئيس الجمهورية المسيحي في لبنان، وهذا ما لفتَت إليه القمّة الروحية، بدعوتها إلى «انتخاب رئيس للجمهورية يُعيد إلى المؤسسات الدستورية انتظامَها ويعمل على بناء وطن يَفرح به أبناؤه».
فرئيس الجمهورية اللبناني هو الوحيد القادر على رفع مطالب المسيحيين المشرقيين الى عواصم القرار والمنابر الدولية التي لا يمكن أن يعتليَها إلّا الرؤساء. أمّا الوزير أو زعيم الحزب مهما بلغَت قوّتُه، فلن يقف على منبر الأمم المتّحدة ويخطب… وبالتالي المسيحي المشرقي يحتاج المقام.. ألَا وهو رئاسة الجمهورية اللبنانية.