السيد الحراني
تزوجت فاتن حمامة من المخرج عز الدين ذو الفقار الذي كانت تعده أستاذا لها، وقالت وهي تتذكر الأيام الأولى لها معه اكتشفت أن علاقتي بعز الدين كانت علاقة تلميذة مبهورة بحب الفن، تزوجت الأستاذ مدفوعة بنزوعه إلى الكمال وليس إلى الحب «هذا ما اكتشفته بعد ذلك» ومرت الأيام وبدأت أبحث عن الحب، أبحث عنه بهدوء وفي سكون. وقد ضاعف من حاجتي إلى الحب إحساسي بالفراغ، فعز الدين كان يقضي نصف ساعات يومه في العمل والنصف الآخر في الاستعداد للعمل وما تبقى من وقته كان يمضيه معي. وكانت الأزمة الأولى في حياة الزوجين عندما قرر عز الدين أن تمثل ابنتهما نادية دورا في الفيلم الأول الذي تنتجه فاتن وهو «موعد مع السعادة». وتذكر فاتن أنها اتخذت قرارا متسرعا بترك المنزل مع ابنتها ولكن عادت لزوجها وبالفعل قامت نادية بأول دور سينمائي لها كابنة فاتن حمامة في الفيلم.
وتستكمل سيدة الشاشة العربية السيرة والمسيرة قائلة.
في الحياة فقرات كثيرة راكدة تخلو من الأحداث والانفعالات المهمة، وحياتي مع عز الدين ذو الفقار طوال المدة التي استغرقها العمل في فيلمنا «موعد مع السعادة» كانت من هذا النوع فقد ابتلعتنا دوامة العمل فلم أعد بالتالي أفكر إلا في كل ما يخص الفيلم ابتداء من عقود زملائي الفنانين إلى مواعيد خروج النسخ من العمل، وعرض الفيلم في دار سينما ميامي بشارع سليمان باشا وحقق إيرادات خيالية، فقد مست القصة في الجمهور وتر الإنسانية ومن هنا تهافتوا على مشاهدتها وشعرت بشيء من الراحة وأيضا بشيء من الغيظ عندما حمل إلي عز الدين مع قبلة وشاي الصباح جريدة أفردت نصف صفحة كاملة لنادية وحدها قال فيها كاتبها «لقد أثبتت نادية أن الفن يمكن أن يورث فالذي يراها في فيلم (موعد مع السعادة) يشعر أنها كادت في مشاهد كثيرة تتفوق على أمها العظيمة».
وأسعدني أن يكتب هذا عن طفلتي نادية فهي كانت طبيعية في أدائها حتى ظهرت وكأنها ولدت في أستوديو، وفي الفيلم مشهد لن أنساه ما حييت وهو مشهد بكيت فيه بدموع حقيقية وكانت اللقطة تصورني وأنا جالسة إلى جوار فراش نادية أداعبها وأروي لها القصص كي أجلب النعاس إلى عينيها الجميلتين، فقلت لها إن أميرا في مملكة بعيدة أصيب بمرض عضال عجز أمهر الأطباء في مملكته عن شفائه منه وقد خرج الأمير حزينا في رحلة صيد وهناك التقى برجل اشتهر بأنه صاحب خبرة وصاحب رأي سديد وراح الأمير يشكو إلى الحكيم علته فاستمع إليه الرجل جيدا ثم قال له إن علاجك يا مولاي بسيط، فقط عليك أن ترتدي قميص رجل سعيد مدة أسبوع وبعدها سوف تشفى نهائيا من مرضك – واستمعت نادية إلي باهتمام بالغ وأنا أروي لها القصة حتى كادت تنام قبل أن أكملها – وتابعت القصة فقلت لها: وقد أرسل الأمير في اليوم التالي رجال حاشيته فجابوا أرجاء البلاد كلها بحثا عن القميص وعادوا في النهاية دون أن يحققوا للأمير رغبته وعندما أنب الأمير قائد حرسه قال له الأخير مغلوبا على أمره، آسف يا مولاي فالرجل السعيد الوحيد لا يملك قميصا، وفوجئت بنادية تسألني وكان هذا خارجا عن الحوار المكتوب أنت سعيدة يا ماما؟، وصاح عز الدين بعصبية (ستوب)، ولم أقو على إعادة اللقطة قبل ربع ساعة فقد انخرطت في نوبة من البكاء لأن أصابع نادية الرقيقة مست دون أن تدري جرحا عميقا في نفسي.
والسبب في شقائي قديم يعود إلى أيام كنت في معهد التمثيل حينما التقيت يومها بضابط شاب وسيم يزهو بالنجمة البراقة على كتفه وأعجبت به جدا بل أقول بصراحة في هذه السطور إنني أحببته وقد التقيت به مرات قليلة عرفت في إحداها اسمه «كمال» ثم مرت الأيام واكتشفت أن كمال ليس إلا شقيق عز الدين الأصغر وقد عرف عز بتفاصيل الحب البريء قبل أن يطلب يدي ولم يفاتح شقيقه الأصغر في شيء وإنما اكتفى بالسعي مستخدما علاقاته لدى أصدقائه من كبار الضباط حيث كان هو نفسه ضابطا قبل أن يتفرغ للسينما حتى نقل شقيقه، كمال، إلى السودان وشعرت بالذنب لما حدث له، وقد تركت هذه القصة في نفسي رواسب من الحزن والمرارة، التي تقلصت مع الأيام ولكنها لم تتلاش تماما.
انتهى تصوير الفيلم وأسفت جدا فقد كان مقدرا لي أن أعود إلى الفراغ الذي أخشاه خاصة وكان عز غائبا في الإسكندرية وكنت أقرأ قصة أحببتها كثيرا تروي سيرة «الإمبراطورة جوزفين» والمتاعب التي تعرضت لها في حياتها الزوجية، كنت منكبة على الصفحات باهتمام التلميذة التي تذاكر دروسا حين رن جرس التليفون وسمعت أحمد ضياء الدين يقول: تونة، تسافري لبنان؟
ولم أفكر لحظة، بل قلت له على الفور: موافقة.
فقال المخرج الصديق: إذن استعدي للسفر قريبا، فقد دعانا موزع الفيلم لحضور حفلات العرض في لبنان.
ووضعت سماعة التليفون وأنا أكاد أطير من الفرحة ولم تكن هذه أول زيارة لي للبلد الجميل فقد زرته كثيرا من قبل وكانت لبنان دائما حبيبة جدا إلى قلبي وتربطني صداقات هناك عميقة وقديمة والشعب اللبناني شعب محب للحياة ومحب للجمال ومحب للبهجة وينقل إليك هذا الإحساس دائما، ولكنني كنت في حاجة إلى الهروب من نفسي ومن متاعبي جاء السفر في الوقت المناسب كي لا يفلت زمام أعصابي، وطلبت بدوري عز في فندق متروبول بالإسكندرية ورد على موظف الاستعلامات بأدب فقال لي إنه قد خرج للتصوير ورجوته أن يبلغه رسالتي بمجرد عودته وكنت في ذلك الوقت قد انتقلت من شارع المقريزي الموازي لشريط المترو بمصر الجديدة حيث أقمت في بداية زواجي إلى شقة أنيقة استأجرناها في عمارة برج الزمالك بحي الزمالك الراقي.
وقفت في شرفة الشقة الجديدة أتسلى بمراقبة رواد نادي الضباط المواجه لنا وقد جلسوا في الشمس يلعبون أو يتحدثون وأخرجني من تأملاتي البعيدة فقد كنت أرى نفسي بعين الخيال واحدة من الزوجات اللواتي أراهن أمامي لو أن حبي الأول انتهى بالزواج أخرجني من الهدوء النسبي الرنين المتصل لجرس التليفون وهو رنين تتميز به المكالمات الخارجية دون سواها، كان المتكلم هو زوجي عز فقلت له: ضياء الدين عرض علي السفر إلى لبنان.
فقال لي على الفور: أنا ما عنديش مانع.
وضايقني بشدة رده السريع، تماما كما ضايقني من قبل الليلة التي عشتها إلى جوار التليفون أيام خلافنا الأول، لقد تمنيت أن يقول لي عز: هل تسافرين وحدك، انتظري حتى نسافر معا، أو يقول حتى لنؤجل البت في الموضوع حتى أعود.
ولكنه لم يقل شيئا من هذا وافق على الفور وشعرت بفرحتي بالسفر تشوبها مرارة جديدة، وسافرت دون أن أودع عز فقد كان في الإسكندرية لأن اللقطات التي صورت من قبل تلفت في العمل، وهذا أمر وارد في العمل السينمائي، واضطر إلى إعادة تصويرها ومن هنا اكتفى بإرسال برقية يتمنى لي فيها إقامة طيبة وعودة سريعة. في مطار القاهرة التقيت بأحمد ضياء الدين والتقيت أيضا بصديق عزيز وكنت أرتاح إليه كثيرا وهو المونتير المعروف ألبير نجيب الذي تحول إلى الإخراج فيما بعد، ثم هبطت الطائرة في مطار بيروت، والتقيت على أرض لبنان بوجوه كثيرة وبأصدقاء كثيرين ومعجبين أكثر وتلاشت متاعبي وأفكاري كما تتلاشى الغيوم عند أول شعاع شمس، ولكن الحال عادت أسوأ مما كانت عليه بعد لحظات، فقد اقترب مني صحافي أعرفه، ولكني لن أذكر اسمه وهمس في أذني قبل أن أركب سيارة الموزع بكلمات قليلة وشعرت بالأرض كلها تنهار تحت قدمي حيث كانت الكلمات التي همس بها الصحافي في أذني أشبه بفحيح الأفاعي التي تمهد اللسعة القاتلة، سألني ولست أدري الدافع للسؤال: هل حقيقي أن عز الدين يحب سواك؟ وكان سؤال الصحافي غريبا بقدر ما كان جريئا وقد ارتجفت له لأنني في أعماقي كنت أشعر بتحول طارئ في عواطفه نحوي، وعز الدين كان خياليا متطرفا في الخيال فكان يعيش الفيلم الذي يستعد لإخراجه بكل لقطاته بكل جملة في حواره ومن هنا كان يندمج في الأحداث إلى درجة التوهم بحب البطلة وهناك فارق كبير بين التوهم وبين الشعور الفعلي بالحب، المهم أننا وصلنا إلى الفندق الذي اختاره لنا الموزع وكان فندق بياريتنز الذي يطل على بحر بيروت بكل زرقته وبكل جماله ووضعت حقائبي في خجل وارتميت على السرير بملابسي أبكي بحرقة ولم يكن بكائي بسبب عز الدين بقدر ما كان بسبب كرامتي التي شعرت أنها مست أو ربما طعنت، وانتظرت أكثر من ساعة في الحجرة حتى سمعت نقرات على الباب وفتحته لأشاهد أحمد ضياء الدين أمامي وقد دهش لمنظري ودهش لثيابي التي تكسرت من رقدة الفراش ودهش للدموع التي حفرت خدي حفرا، وانزعج المخرج الطيب قائلا: إيه الحكاية يا تونة؟
فقلت له وأنا أغالب دموي مرة جديدة: عز يا ضياء.
فعاد يسأل مستفسرا: ماذا به؟
وأجبت بمرارة: بيقولوا بيحب واحدة تانية.
فسكت قليلا وتجهم وجهه ثم حاول أن يتدارك الموقف فقال لي: مين اللي قالك؟
وبدلا من أن أجيبه على سؤاله اندفعت أقول بلهفة: مش مهم مين اللي قالي المهم أنت عارف حاجة؟
فقال لي وهو يحاول الإفلات من الشرك التي نصبتها له: لا، لا أبدا، أبدا.
وشعرت أن ضياء يكذب.
تسلل ضياء خارجا من الحجرة وهو يقول لي: إحنا مستنينك تحت فيه عزومة علشان ما تنسيش.
فقلت له وأنا أحاول اصطناع هدوئي: أما أشوف.
وأدرت قرص التليفون أطلب الدليل، وأسأل عن رقم الجريدة التي يعمل بها الصحافي الذي عكر لي صفو الأيام الحلوة في بيروت وسمعت صوته وجاءت نبراته إلى أذني أشبه باحتكاك معدنين صدئين أحدهما بالآخر.
قلت له: أنا فاتن حمامة.
وغاب صوته عن السماعة كأنه لم يتوقع الأمر ثم قال لي وبذات الزهو يملأ صوته الكريه: الحمد لله على السلامة، أهلا أهلا.
وجاهدت طويلا في سبيل الاحتفاظ بهدوء أعصابي وقلت له: أنا آسفة، ولكني لم أستمع جيدا إلى ما قلته لي في المطار.
وسكت الرجل قليلا ثم قال: لقد سألتك عن قصة حب عز الدين الجديدة.
وانفلت بشدة وقلت له بحدة: وهل هذا سؤال يوجه إلى زوجة؟
فقال بصوته اللعين: يا مدام دي حكاية معروفة في القاهرة.
ودون أن أدري أعدت السماعة مكانها وأغلقت السكة في وجهه، وجلست على مقعد قريب من التليفون تعبة مرهقة كأنني مشيت السكة كلها من القاهرة إلى بيروت وحاولت أن أعود بذاكرتي إلى أحداث قديمة مرت دون أن أوليها اهتماما كبيرا تماما كما يفعل المخبر السري عندما ينقب عن مخلفات الماضي ليقبض على مرتكب جريمة جديدة، وعادت الأحداث واضحة جلية كما تعود الصور القديمة في الأفلام، صور الماضي المعروفة باسم «الفلاش باك» وتذكرت شيئا مهما، تذكرت أنني عثرت ذات ليلة في جيب من جيوب سترة عز، وكان من عادتي أن أنقل محتويات الجيوب من بدلة إلى أخرى، على صورة ممزقة وقد تفحصت بقايا الصورة فلم أجد فيها غير جزء من وجه عز وبقايا صورة امرأة لم يبق منها إلا جديلات من شعر أصفر رخيص، وقد سألت عز عن الصورة في اليوم التالي فقال لي إنها لقطة من ألبوم الفيلم لم يرض عنها فمزقها، وحاولت أن أعرف الحقيقة من «الجاسوس» فلم أظفر بطائل، وإن كان قد أخطأ وذكر أن عز سهر قبلها بيومين في الأريزونا وهو ملهى بشارع الهرم يديره المطرب المعتزل محمد أمين، وتذكرت أيضا مكالمة تليفونية أثناء غيابه في الإسكندرية فقد رن التليفون في بيتي فلما رفعت السماعة سألني المتكلم قائلا: الأستاذ عز موجود؟
وأجبت بالنفي، فعاد يسأل: حيرجع امتى؟
وهنا قلت له: مين حضرتك؟.
وسمعته يهمس إلى امرأة تقف بجواره: تسألني إنت مين يا ست سامية.
وقبل أن يرد أغلقت السكة فجأة، وهنا شعرت أنني حللت اللغز المستعصي، وقلت لا بد أنها سامية جمال، ولكني اتهمت إنسانة بريئة في الواقع فسامية جمال صديقة عزيزة وهي إنسانة تقيم وزنا كبيرا للصداقة وللمبادئ.
بدلت ملابسي بسرعة وأزلت من عيني بقايا الدموع بالريميل ونزلت سلم الفندق وأنا أرسم على شفتي ابتسامة عريضة ولكنها ابتسامة مزيفة وبرقت في وجهي عشرات من مصابيح «الفلاش» والتقطت لي صور كثيرة وأنا أسير إلى المائدة الرئيسية في المأدبة التي أقيمت على شرفي كما يقال في لبنان الحبيب.
وطلب لي الصديق العزيز فنجان قهوة بلا سكر حتى ينقذ رأسي من الدوار الذي بدأ يستبد به وانتهى الحفل وبدأنا نصعد إلى حجراتنا وسار ألبير إلى جواري فقلت له: قولي يا ألبير فيه واحدة في فيلم عز اسمها سامية؟
وفكر ألبير قليلا وراح يستعرض لقطات الفيلم التي مرت أمامه على الموتيدلا ثم قال: لا مفيش!
وقبل أن نصل إلى الدرج المؤدي للطابق الثاني توقف ألبير قليلا وقال كمن تذكر شيئا: يكونش قصدك سامية كمال.
وقلت له دون أن أدري: لازم هي، لازم هي.
ولم يفهم الصديق شيئا مما أقوله وراح ينظر إلى بإشفاق، وصعدت درجات فندق بياريتز والاسم يطن في أذني كانت صوت عجلات القطار في رحلة طويلة مملة «سامية كمال.. سامية كمال.. سامية كمال» وكدت أسقط إعياء وتحاملت على نفسي حتى وصلت حجرتي وهنا انهارت مقاومتي فارتميت فوق السرير بثوب السهرة، واستيقظت قبيل الفجر على أشعة الشمس الأولى التي تسللت إلى مخدعي عبر النافذة المفتوحة وحاولت أن أنهض من رقدتي فلم أستطع في البداية كان كل جزء من جسدي يؤلمني وكأن هناك عشرات من المسامير قد دقت فيه واكتشفت السبب عندما شاهدت زجاج النافذة المطلة على البحر مفتوحا، وتحاملت على نفسي مرة جديدة فخلعت ثوبي وارتديت روبا وتسللت إلى الفراش بعد أن أغلقت النافذة وحاولت أن أفكر بهدوء.
وفجأة أخرجتني طرقات خفيفة على بابي من دوامة التفكير وقلت وأنا ألملم الغطاء على جسمي اتفضل، ودخل الجارسون فحياني بأدب ثم قال لي «سيدتي لقد كنت متعبة بالأمس ولذا فقد طلب المدير أن نحمل إليك إفطارك في غرفتك»، وبدأت أتصفح الجرائد والمجلات التي جاءت مع الطعام وفجأة تسمرت عيناي على خبر يحتل صفحة كاملة من إحدى المجلات «نفس المجلة التي يعمل بها الصحافي الذي لا أريد ذكر اسمه بين سطور تلك المذكرات»، وكان الخبر خاليا من الأسماء ولكنه كان صريحا بما فيه الكفاية وواضحا وضوح النهار نفسه.
وجاء في السطور ما يشكل هذا المعني «واتصلت بنا النجمة الكبيرة.. الكبيرة جدا، وبدلا من أن نسألها تفاصيل المغامرة العاطفية التي يعيش فيها زوجها البوهيمي، بدأت هي تسألنا عن التفاصيل»، وراح الصحافي يروي الكثير من التفاصيل التي بدت لي أنها من نسج خيال سقيم مريض وحاقد يشقيه أن يرى الناس سعداء، ولكن وسط الأكاذيب كانت هناك ثغرة الحقيقة ثابتة فقد كتب الصحافي أن عز الدين تخلف عن وداعي لارتباطه بموعد غرامي، كان الشيء الثابت هو تخلف عز أما الأسباب فكانت تحتمل التأويل ونحيت صينية الإفطار جانبا وشعرت بالغيرة تهلك نفسي وتمضغها مضغا وكأنها قطعة «علكة» بين فكين لا يرحمان وعدت إلى السؤال الذي طالما أرهقني «هل عز الدين هو رجل حياتي؟ هل هو رفيق مشوار العمر الطويل؟»، ولم أشأ أن أضعف أو أتخاذل، فقررت أن أكون حازمة في موقفي بشرط أن أدرس الموقف كله وأن أحيط بتفاصيله ولما كانت المسألة من الصعب أن تتم في لبنان فقد قررت أن أرجئ البت فيها إلى حين عودتي ورأيت أيضا أن أكبت في نفسي كل قلق وكل تعب حتى لا أظهر أمام المعجبين بصورة تختلف عن تلك التي اعتادوا مشاهدتها، وبالفعل اتصلت بأحمد ضياء الدين تليفونيا في حجرته وقلت له: بابا أحمد أنا عاوز منك طلب، (وأسعده أن أناديه بلقب بابا).
فقال لي بفرحة: أنا تحت أمرك يا بنتي.
فقلت: أريد أن أسهر الليلة.
وأجاب على الفور: بس كده، أنا تحت أمرك،
بعد ذلك وذات صباح تلقيت برقية من عز الدين كان نصها «وحشتيني جدا، تلحمي اتصل بي من أجل فيلم جديد، عودي بسرعة.. قبلاتي»، وطويت البرقية ووضعتها في حقيبة يدي، وطويت معها بعضا من مخاوفي السابقة، واتصلت بالزملاء أخبرهم باضطراري إلى العودة.
إحساس بالذنب
عندما سألتني نادية هل أنا سعيدة تذكرت على الفور المتاعب التي لقيها الضابط كمال بسبب حبه لي، وقلت لنفسي «إن التي تطأ في طريقها قلوب الآخرين لا يمكن أن تكون سعيدة»، وبسبب إحساسي بالذنب عشت معذبة فترة طويلة على الرغم من أن الذنب لم يكن ذنبي وحدي وإنما كان لي فيه شركاء، وأنا أشعر بالراحة، راحة الخاطئ عندما يجلس إلى كرسي الاعتراف.
جرح الخيانة
عز فنان والفنان عرضة لأن ينحرف فترة مع تيار عاطفي معين ولكن هذا لا يعني بأية حال أنه نسيني أو يفكر في نسياني مع امرأة أخرى أيا كانت هذه المرأة وسواء أكانت بطلة أم راقصة مغمورة، وشعرت بشيء من السكينة مع هذا التفكير المنطقي ولكن الجرح عاد يؤلمني، الجرح الذي يصيب المرأة عندما تشك وعندما تتعذب فالخيانة لا توقظ في النفس أكثر من الأنانية نحن نتساءل في أعماقنا ودون أن نشعر: لماذا ينصرف عنا الناس إلى أناس آخرين، ما هي المزايا التي يجدونها في الآخرين ولا يجدونها فينا؟