قراءة بقلم سركيس كرم

كتاب «نظرة في تاريخ إهدن – أعظم المعارك الإهدنية في التاريخ (2000 ق. م- 1975)» هو إصدار جديد للكاتب المعروف والشاعر المبدع والباحث الأكاديمي الدكتور جميل الدويهي الذي أصدر على مدى أعوام من العطاء ثروة من المنشورات الأدبية. يذكر ان الدويهي قد حقق ويحقق النجاح البارز في مجالات الشعر والفلسفة والرواية والتاريخ مما جعله من أهم الأدباء والكتاب والمحللين.

يخوض الدكتور الدويهي في كتابه الجديد تجربة النشر باللغة الانكليزية للمرة الثانية بعد كتابه الأول «اسطفان الدويهي، من قمم اهدن الى قمم القداسة». وهذه تجربة صعبة للغاية بحثاً وتنقيباً كون معظم المراجع المتوافرة والوثائق هي باللغة العربية او الفرنسية وكذلك بالسريانية. وبالرغم من الصعوبة، نجح الكاتب بإصدار كتاب يتضمن وقائع العديد من المعارك التي خاضها الأهدنيون طوال تاريخهم بأسلوب توثيقي شيق.

يأخذنا هذا الكتاب المميز في رحلة تاريخية رائعة  إلى مراحل تجعلنا نعتز أكثر بسيرة أجدادنا وبطولاتهم. فأجدادنا عاشوا طوال تاريخهم الحافل في جبال قاسية وتضاريس وعرة وناضلوا من اجل البقاء في صراع شبه دائم مع الغزاة على مختلف جنسياتهم.

تجدر الإشارة إلى أن غلاف الكتاب يضم صورتين، واحدة هي صورة فوتوغرافية حقيقية لبطل لبنان يوسف بك كرم مع البابا بيوس في الفاتيكان أخذت في عام 1879، والاخرى صورة زيتية  للشيخ جرجس بولس الدويهي «محرر إهدن» كما وصفه الكاتب بطرس وهبي الدويهي. يستعرض د. جميل  دور الشيخ جرجس الذي برز في منتصف  القرن السابع عشر  على صفحات 74 الى 83.

اللافت، أنه ولا سيما من منتصف القرن السابع  فصاعدا، كما يرد في الكتاب، لعبت جميع الأسر الأهدنية، الصغيرة والكبيرة، بقيادة ما يعرف اليوم باسم العائلات السياسية الخمس: الدويهي، كرم، فرنجية، معوض ومكاري أدوارا حاسمة على مدى عقود عديدة في صنع التاريخ الأهدني  المشرف على المستويات الدينية والسياسية والثقافية والبطولة.

سوف أتطرق في هذه القراءة المقتضبة إلى أربع نقاط رئيسية وردت في الكتاب كونها تسلط الضوء على بعض المراحل الأكثر أهمية في تاريخ إهدن.

النقطة الأولى هي أن الأهدنيين لم يكونوا من المعتدين حيث يثبت[t1] الكتاب هذه النقطة في الصفحة 10  «اقتنع الأهدنيون بأن دفاعهم عن  أرضهم يعني الدفاع عن شرف عائلاتهم، وعن تاريخ الأجداد المجيد، وقبل كل شيء، عن دينهم».  هنا، الحرية الدينية في ممارسة شعائرهم، والرغبة في الحفاظ على كرامتهم جعلتهم يقاتلون بشجاعة فائقة، وغالبا ما هزموا الغزاة على الرغم من ان أعداد الغزاة وأسلحتهم فاقت بكثير عدد الأهدنيين.  يؤكد الكتاب ان الأهدنيين لم يشاركوا في معارك خارج أطار مناطقهم إلا في حالات نادرة (الصفحة 11)  «قد انتقلوا إلى فلسطين في عام 1900 قبل الميلاد من أجل مساندة الكنعانيين في حربهم ضد الإسرائيليين. وبعد سنوات عديدة، اندفعوا بقيادة بطلهم يوسف بك كرم، بغية أنقاذ زحلة ومدن وبلدات أخرى من الفظائع».

والنقطة الثانية هي أن الكتاب يجزم أن إهدن كانت من البلدات الفينيقية القديمة التي لم تنل الاعتراف المناسب تاريخيا على هذا الصعيد على الرغم من أن  إهدن ضمّت مواقع خصصت لآلهة الفينيقيين في باب الهوى لإله الثلج، البعول  للإله بعل و غيره من آلهة الفينيقيين. (ص 19).

النقطة الثالثة هي قدرة أهالي أهدن القتالية  التي تكرست في كافة المعارك التي خاضوها.  وعلى الرغم من أن كل تلك المعارك تعكس ارادة المثابرة وعزيمة البقاء وروحية البسالة، تبرز ثلاث معارك كبرى الى جانب حرب السنتين 75-76 كأهم المعارك التي كان لها الأثر الكبير في تكوين وترسيخ الفروسية الأهدنية وموقعها الماروني والوطني المتقدم.

من هذه المواجهات المحورية  معركة الشيخ جرجس بولس الدويهي لتحرير اهدن من هيمنة عائلة حماده وممارساتها.  وقد دارت هذه المعركة الشرسة داخل بلدة إهدن لتنتهي بإنتصار  ابناء اهدن  بقيادة الشيخ جرجس الدويهي مما ساهم بتحديد معالم اهدن الجغرافية كما نعرفها اليوم  (ص75). على أثر هذا الانتصار تم تعيين الشيخ جرجس الدويهي حاكما على اهدن  بدلا من أبو ناصيف حماده المنهزم لتبدأ مرحلة غير مسبوقة في ادارة اقطاعية اهدن.

معركة بنشعي ومن ثم معركة سبعل (ص 111-115) بقيادة يوسف بك كرم حيث خاض الأهدنيون الذين لم يتجاوز عددهم السبعمائة مواجهات بطولية عنيفة ضد الجيش العثماني النظامي المؤلف من بضعة آلاف من الجنود. تسلح الأهدنيون بالسيوف والأسلحة المحلية الصنع الى عدد قليل من البنادق والكثير من البسالة ليلحقوا بالغزاة في كلتا المناسبتين أقسى الهزائم المذلة على الرغم من تفوق الغزاة في التدريب العسكري والأسلحة الفردية والمدفعية. هكذا، و خلال شهر واحد ورغم كل الصعاب، قام الأهدنيون بعد ما أظهروه من بطولة و مهارات قتالية وشجاعة لا تقهر بدحر القوات الغازية وإرغامها على الفرار نحو طرابلس.

حرب السنتين (ص 128) وأقتبس هذا الوصف من الكتاب «نشر لواء المردة المقاتلين من اهدن ومنطقة الزاوية ، على خط الجبهة الممتد على طول اثنين وأربعين كيلو مترا من أجل حماية زغرتا اهدن والجوار». هنا، أحيّي شهداء هذه الظاهرة الدفاعية الاسطورية من أبناء زغرتا الزاوية، وألفت الى  أن المواجهة خاضها على طول ال42  كيلومترا عدد قليل من الأبطال وضعوا نصب أعينهم مهمة  الدفاع عن زغرتا-الزاوية  تماشيا مع تاريخ الأجداد على النحو الذي تدعمه الأدلة التاريخية التي يقدمها الدكتور جميل الدويهي في كتابه.

النقطة الرابعة والأخيرة هي أنه بوجود أصحاب المواهب والطاقات العلمية مثل د. جميل الدويهي سيتم الأضاءة على تاريخ اهدن المجيد لكي تبقى تضحيات أبناء اهدن في الذاكرة ولتظل عطاءاتهم على مختلف الصعد تساهم في إنعاش قلوب وعقول اللبنانيين في الداخل والخارج.  والجدير قوله انه و بما أن أهدن تحظى ببركة المكرم البطريرك اسطفان الدويهي، وتتسلح بإرث بطل لبنان يوسف بك كرم، بالإضافة إلى ميراث هائل من قيم الأجداد وبسالتهم،  فهي سوف تتغلب دائما على المحن والمصاعب.

وأختم بتوجيه أحر التهاني الى الأديب الدكتور جميل الدويهي الذي سوف تظل كتاباته تعمل على إغناء الأدب على المستوى العالمي. كما أن النجاح الذي حققه ويحققه هو مصدر فخر واعتزاز لكل المدافعين عن حقوق الإنسان والعدالة، ومصدر إلهام للكثيرين كون إنتاجه الأدبي يعكس الروح العبقرية للأفكار الابداعية.