الكعب العالي.. ولقاء المخرج عز الدين ذو الفقار
القاهرة: السيد الحراني
كانت وما زالت فاتن حمامة هي الأكثر حضورا بين نجمات جيلها، تخفق لها قلوب المعجبين والعاشقين رغم أنوثتها الهادئة، وتعابير وجهها السمحة. لقد استطاعت تلك الأيقونة الإنسانية والفنية أن تقوى على العيش منذ طفولتها داخل الاستوديوهات وسط الصرخات والبكاء الممزوج بالأداء الذي يختلف من عمل لآخر ويتباين بين المخرجين والمنتجين، فكان ذلك هو قدرها وفنها وحبها أيضا. وهي حتى بعد وفاتها، تجزب محبيها من كل العالم العربي. وفي مذكراتها التي تنشر بالتعاون مع «وكالة الأهرام للصحافة» ما زالت تكمل السيرة والمسيرة الصاخبة والضخمة قائلة:
كانت أغلب الأحاديث في الاستوديوهات باللغة الفرنسية في بداية حياتي الفنية، وكان المخرج يخاطب بها المصور، ومهندس الصوت يتفاهم بها مع الفنيين، واستهوتني تلك اللغة الجديدة فصممت على مضاعفة محصولي منها، والذي كان مجرد محصول طالبة في المدارس، حتى تمكنت من استعمال «الفرنسية» في التخاطب مع المخرجين والمصورين وغيرهم.
أذكر أنني أثناء دراستي بالمعهد تلقيت عرضا من إحدى الفرق المسرحية للعمل بها بمرتب كبير، وعلى الرغم من أن المرتب كبير بالنسبة لطالبة فلم يكن من أهدافي أن أتخذ من المسرح وسيلة للكسب، فضلا عن أن الدراسة في المعهد كانت تضاعف من معلوماتي الفنية، وكانت المكتبة العربية (ولعلها ما زالت حتى اليوم) تنقصها المؤلفات التي تتحدث عن الفن المسرحي من نواحي التاريخ والحرفية، فكانت محاضرات معهد التمثيل تعوض بعض هذا النقص.
ومن ذكريات المعهد التي لا أنساها ما حدث عندما طلب إلينا أن نتدرب على إحدى المسرحيات، وكان من بين مشاهد هذه المسرحية مشهد أصفع فيه أحد زملائي الطلبة على وجهه، وأثناء التدريب صفعته صفعة هينة لكنها لم ترض زكي طليمات، فصاح يطلب مني أن أصفعه بشكل حقيقي بكل قوتي، وأمام صراخ طليمات لبيت طلبه، ولكن بدلا من أن يصرخ الطالب لشدة الصفعة أطلقت أنا صرخة عالية، حيث لم تتحمل يدي الضعيفة الصفعة وكادت تصاب. وأيضا أثناء دراستي في المعهد ذهبت لمشاهدة فيلم اسمه «الباحثة عن الحب»، وأعجبني هذا الفيلم إلى درجة أنني شاهدته أكثر من خمس مرات، وكانت قصته تدور حول «فتاة توافرت لها كل أسباب السعادة لكنها حرمت من غذاء القلب وعاشت تبحث عن هذا الغذاء الذي يساوي في نظرها كل ما يحيطها من أسباب السعادة»، وكنت أعطف عطفا شديدا على بطلة الفيلم لحرمانها العاطفي، وكنت في تلك الأيام كأي فتاة في مثل سني أرسم في مخيلتي صورة فتى أحلامي، وكان هذا الفتى كما تخيلته «وسيما وممشوق القامة ومعتزا بنفسه وشجاعا وصريحا»، وليس من حرج أن أذكر الآن أن الصورة التي رسمتها في ذهني عن فتى أحلامي لم أجدها في واحد من زملائي طلبة المعهد حينذاك، فقد كانوا جميعا بعيدين كل البعد عن تلك الصورة، لذلك كانت الأخوة الصادقة هي إحساس علاقتي بهم جميعا، ودامت دراستي بالمعهد عاما وبعض العام، فقد ازدادت ارتباطاتي بالعمل في الأفلام، فكان من العسير عليّ أن أجمع بين بطولة هذه الأفلام وبين دراستي بالمدرسة الثانوية ثم الدراسة بمعهد التمثيل، وترتب على ذلك أن تركت دراستي بالمعهد لأتفرغ لعملي في السينما، ثم تركت دراستي بالمدرسة الثانوية – للأسباب التي ذكرتها مسبقا.
بعد ذلك بدأت الصحف والمجلات تنشر صوري وأخباري، وأصبح الجمهور يهتم بما ينشر عني، وصرت أتلقى يوميا عشرات رسائل الإعجاب، وأصبحت مشهورة، فكنت حينما أسير تلاحقني العيون، وحينما أقف تلتف حولي الشلل، وحينما أدخل المحلات تترك البائعات جميعا أماكنهن ليهرعن إليّ ويعرضن خدماتهن عليّ، وأيضا كنت كأي صبية في أيامها الحلوة (الشباب) أبتهج كل الابتهاج من اهتمام الناس بي، ولم يقف هذا الاهتمام عند هذا الحد بل امتد إلى البريد، حيث كان ساعي البريد قد بدأ يحمل إليّ خطابات من المعجبين في مصر وجميع أنحاء العالم، وكانت هذه الخطابات تتضمن الكثير من الطرائف التي أثارت اهتمامي في بادئ الأمر، ثم أصبحت مع الأيام شيئا مألوفا، وقبل أن أنقل إلى من يقرأ «مذكراتي» جزءا من تلك الطرائف يجب أن أقول إنني اعتنيت منذ البداية بأمر خطابات المعجبين فكنا «أنا ووالدي» نمضي عدة ليال ساهرين في الرد على هذه الخطابات.
وأصبحت مضطرة أن ألتقط عدة صور في كل شهر لأطبع منها آلاف النسخ وأرسلها إلى المعجبين والمعجبات مذيلة بإمضائي، وما زلت أتذكر خطابات المعجبين الأولى، حيث كانت مرسلة من طلبة المدارس الثانوية وطلبة الجامعة، وكانت كلها تحمل عروضا للزواج، وكنت قد أحصيت عدد تلك الخطابات التي تحمل تلك العروض التي تلقيتها خلال الأشهر الأولى فقط فوجدتها نحو ثلاثة آلاف خطاب، فكانت بين تلميذ في السنة الأولى الثانوية يعرض عليّ إعلان الخطبة وإرجاء مراسم الزفاف إلى أن ينتهي من دراسته الجامعية، وآخر يعرض عليّ الزواج فورا ويبدي استعداده لقطع الدراسة وافتتاح مؤسسة تجارية، وثالث يعرض عليّ مهرا قدره عشرون جنيها ودراجة.
ثم جاءت المرحلة التي تمر بها كل فتاة ويمر بها كل شاب، تلك المرحلة التي تتعارض فيها الآراء الشخصية والرغبة في الانطلاق والتحرر من أي سيطرة وآراء الأسر التي تعارض دائما النزعات والنزوات من أجل الحفاظ على أبنائها، بالفعل وقع أول صدام عندما رغبت في ارتداء الأحذية ذات «الكعب العالي»، لكن والدتي عارضتني بشدة قائلة إن هذا النوع من الأحذية لا يناسب عمري مطلقا، فكانت مناقشة حادة حول هذا الموضوع انتهت بانتصاري. ثم تعاقبت الصدامات في الآراء والتفكير بعد ذلك بصور مختلفة، وعلى الرغم من هذه الصدامات فإنها لم تكن تتعدى المناقشة الودية، وموافقة أسرتي على الانتصار لرأيي لم تبعد عن ذهني لحظة واحدة أنني فتاة مقيدة بالأعراف والتقاليد وليس لي أن أتصرف في شؤوني الخاصة إلا بإذن من والدي وموافقة أسرتي، ولكن أيضا من هنا بدأت في نفسي الرغبة في التحرر من أي سيطرة، وامتلأ رأسي بأفكار كثيرة تؤدي إلى هذا التحدي، وانتهت هذه الرغبة بقصة (سيأتي ذكرها لاحقا). وعدت ذات يوم من المدرسة لأجد والدي ووالدتي جالسين في الصالون يتهامسان في اهتمام كبير، وما كاد والدي يشاهدني حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة، وكان والدي يبتسم دائما عندما يريد أن يعرض عليّ أمرا مهمًا يتصل بشؤوني الشخصية.
وقد بادرته قائلة: خير يا بابا.
فقال: أريد أن أجلس معك قليلا لنتباحث في أمر يخصك شخصيا.
ودخلت غرفة الصالون وبدأ والدي الحديث فقال: لقد تقدم إليّ مدرس شاب له دخل خارجي كبير إلى جانب مرتبه، وهو يرغب في الزواج منك، فما رأيك؟
وقطبت جبيني حين سمعت النبأ.
واستطرد والدي يقول: وقد اشترط شرطا واحدا هو أن تعتزلي الفن.
فقلت لوالدي: وماذا قلت له؟ ألم ترفض طلبه؟ ألم تقل له ليس عندي فتاة للزواج؟ وقمت إلى غرفتي الخاصة وأغلقت بابها علي ولم أغادرها إلا صباح اليوم التالي، وقد كان قراري واضحا ونهائيا فرفض والدي الخاطب الجديد وانتهت المشكلة.
كنت أنا ووالدي في فترة من الفترات نتردد على «بيت الفن»، وقد كان ناديا أنشأه بعض الفنانين ليترددوا عليه هم وزملاؤهم، وكان عز الدين ذو الفقار (المخرج المعروف والمشهور حينذاك) من بين المترددين على هذا النادي، وقد قامت بينه وبين والدي صداقة قوية، وكان عز الدين يستعد لإخراج فيلم «أبو زيد الهلالي» لحساب المطرب محمد أمين، وكان من المتفق عليه بين منتج الفيلم ومخرجه أن تقوم «إلهام حسين» بدور البطولة في هذا الفيلم، وفشلت الشركة في الاتفاق مع «إلهام حسين» فبدأت تبحث عن بطلة جديدة تصلح للقيام بدور البطولة، وفوجئت بإسناد الدور إليّ، وقمت بدور البطولة، فكانت هذه خطوة كبرى في حياتي الفنية. وأتذكر أنه بعد نجاحي في هذا الفيلم رُشحت لأدوار بطولة أخرى، فأسندت إليّ بطولة فيلم «العقاب»، وبدأ اسمي يلمع كنجمة من نجوم الصف الأول.
ومن حوادث العمل التي لا أنساها ذلك الاشتباك الذي وقع بين اثنين من الممثلين في فيلم «القناع الأحمر»، الذي أخرجه يوسف وهبي، وكان هذان الممثلان من أفراد مدرسة يوسف وهبي، وكان الاشتباك مجرد تمثيل، ولكن بلغ الحد من اندماجهما في الاشتباك أنهما أتقنا الضرب والركل حتى اعتقدت أنا أنه اشتباك حقيقي، فأسرعت إلى بعض الواقفين أحثهم على أن يتدخلوا لفض الاشتباك، وفي الفيلم نفسه كان هناك مشهد يتطلب إطلاق الرصاص على أحد الأبطال، وكان يوسف وهبي هو مخرج الفيلم فقط ولم يشترك فيه بالتمثيل، وكنت قد قرأت كثيرا من التعليقات الطريفة على حوادث القتل والموت في كل روايات يوسف وهبي، فلما حان تصوير هذا المشهد قلت ليوسف وهبي: هوّه لازم تموت حد في الفيلم يا يوسف بيه؟ ثم ذكرته بأن الرصاصة التي ستنطلق من المسدس يجب ألا تصيب أحدا بسوء كما تقضي أحداث الفيلم، فقال «فكرتيني يا فاتن»، وترتب على ذلك أنه غير هذا الجزء من القصة بحيث تنطلق الرصاصة فلا تصيب البطل كما كان مكتوبا قبل تعديل الرواية، وإنما تصيب خادمه فيموت لساعته، وضحكت بشدة لأنه أيضا جعل بالرواية مقتولا.
وأذكر أن أول زيارة لي إلى صعيد مصر كانت في فيلم «ملائكة في جهنم»، فقد اقتضت حوادث الفيلم تصوير بعض أجزائه في إحدى قرى الصعيد، فسافرنا، وكانت المناظر التي ستصور هناك لا تستغرق أكثر من دقيقة واحدة، ومع ذلك استغرق تصويرها خمسة أيام، وكنت أسافر كل يوم في القطار وأعود في المساء لأتمكن من الذهاب إلى مدرستي، وفي هذه الأثناء كنت قد انتهيت من فيلم «أبو زيد الهلالي»، وفي تلك الفترة كان عز الدين ذو الفقار مخرج الفيلم قد تقدم لوالدي طالبا يدي، فوافق والدي ووافقت أنا على طلبه بشرط أن يؤجل كل إجراء إلى ما بعد انتهائي من دراستي الثانوية، وراح عز الدين يتردد علينا في البيت، وفكر بعد خطوبتنا في تكوين شركة إنتاج سينمائي، وعرض الأمر على والدي فوافق على المساهمة فيها، وبدأ الاثنان يستعدان لتنفيذ المشروع. في تلك الفترة كنت بلغت السادسة عشرة، وكان أغلب اهتمامي في تلك الأيام منصبا على قراءة الروايات العاطفية، وقد جمعت من هذا اللون ما يكفي لتكوين مكتبة ضخمة تتضمن تراجم أشهر العشاق وأشهر الروايات الغرامية، وكان من المعروف عني أنني لا يمكنني أن أفتح كتابا جديدا وأترك مكاني قبل أن آتي على السطر الأخير منه.
ورأى والدي إزاء هذا الاهتمام الكبير أن يصطحبني إلى طبيب للعيون ليجهز لي نظارة طبية خشية أن يتأثر بصري من القراءة المستمرة، فقد كنت أقرأ ما يقرب من خمس ساعات متواصلة يوميا، وكثيرا ما كان عملي في الاستوديو يستغرق أوقات النهار وبعض ساعات الليل، فكنت أضطر إلى السهر بجوار أحد المصابيح الكهربائية اقرأ حتى ساعة متأخرة من الليل، واقتضى العمل في أحد الأفلام السفر إلى الإسكندرية، ورأى مخرج الفيلم لكي يوفق بين عملي الفني وبين الدراسة أن أركب الطائرة صباح كل يوم إلى القاهرة وأعود في مساء نفس اليوم إلى الإسكندرية، وأعترف بأنني لم أكن قد ركبت الطائرة من قبل، وقد أشاع اقتراح المخرج الذعر في نفسي لكني رفضت أن أعلن هذا الذعر وأبديت استعدادي للسفر. وقد تبدد هذا الذعر والخوف في نفسي بمجرد نزولي من الطائرة في المرة الأولى، ثم أصبحت بعد ذلك أقبل على ركوب الطائرات التي أصبحت في ما بعد أفضلها على سائر أنواع المواصلات، وانتهى العمل في الفيلم وانتهى امتحان المدرسة.
قرر والدي أن تنتقل الأسرة إلى مصيف «رأس البر» لقضاء جانب من فصل الصيف، فحملنا حوائجنا وحقائبنا وسافرنا إلى رأس البر، وما كدت أصل إلى المصيف الهادئ حتى فوجئنا ببرقية تنتظرنا في الفندق من مخرج الفيلم الأخير، وفيها يطلب بإلحاح أن أعود إلى القاهرة لالتقاط منظر مهم في الفيلم كان قد تلف أثناء التحميض، وأعترف بأنني تضايقت جدا من هذه البرقية ونظرت إلى الفتيات اللواتي هن في مثل عمري الواقفات على الشاطئ يتمتعن بعطلتهن وبدأت أسخط على العمل السينمائي، فقد كنت مرهقة للغاية من السفر الذي استغرق أكثر من أربع ساعات، وعلى الرغم من هذا فقد عدت إلى القاهرة لتصوير ذلك المشهد الذي لم يستغرق فيه العمل أكثر من نصف ساعة، ليس هذا فقط بل لاحظت حين عرض الفيلم اختفاء هذا المشهد الذي وصفه المخرج بأنه مهم جدا.
لقد وافق والدي – كما ذكرت أعلاه – على خطبتي إلى عز الدين ذو الفقار، واتفقا على تأجيل حفل الزفاف إلى ما بعد انتهاء دراستي، ووافق عز الدين على ذلك التأجيل بعدما لمس مدى شغفي بالدراسة ورغبتي في دخول الجامعة، ولكن الأقدار أرادت غير ما أردته لنفسي وغير ما اتفقنا جميعا عليه، حيث كنا نعمل في فيلم «خلود» وهو الفيلم الذي أسهم في إنتاجه والدي مع عز الدين بعد تكوينهما الشركة سابقة الذكر، وخلال تصوير الفيلم اتفقت أنا وعز الدين على أن نكتب الكتاب (نعقد القران) ونختصر الطريق، وكانت مفاجأة للأسرة حين عدنا من عند المأذون زوجين، وكان ذلك تحديدا في يوم 20 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1947، وعقب الزواج قامت عاصفة كبيرة مطروحة فيها الأسئلة والأجوبة الافتراضية من الجميع «كيف تهرب فاتن من أهلها؟ كيف تتخلى عن والدها ووالدتها وأشقائها؟ كيف لا تستشيرهم في أمر عقد قرانها؟»، وقيل أيضا «لقد هربت الفتاة الصغيرة من أمور كانت تشغلها، وقد أحبت لأول مرة في حياتها، وشاءت أن تكون ثمرة حبها هي الزواج وهي أجمل ثمرة من ثمرات الحب».
على الرغم من كل تلك العاصفة وبعد لوم شديد تقبلت أسرتي الأمر وباركت زواجي، ونزلت أنا وزوجي في فندق «الكونتيننتال» لنقضي بضعة أيام من شهر العسل. والحقيقة أنني يوم تزوجت بدأت أشعر بأحاسيس ومشاعر مختلفة وجديدة، وعلى رأس تلك المشاعر كان الشعور بالمسؤولية رغم صغر عمري، فقد أصبحت ربة بيت مسؤولة عن مملكة صغيرة ويجب أن أدير شؤونها وأدبر أمورها وأهيئ فيها كل أسباب السعادة، وبالفعل عكفت على قراءة كل ما كتبه الكتاب والأدباء عن السعادة الزوجية، وعكفت أيضا على دراسة شؤون البيت والتدبير المنزلي، واشتريت جميع المؤلفات التي تحدثت عن الطهو وإعداد الحلوى حتى أستطيع استغلال كل مواهبي في دنياي الجديدة، وبدأت أستعين بنصائح ووصفات مختلفة ومتعددة كانت تمدني بها والدتي، وانتهت الأسابيع الأولى من شهر العسل، وكان افتتاح العام الدراسي الجديد يقترب بسرعة، وذات مساء جلست مع عز الدين نعالج مشكلة الجمع بين الحياة الزوجية والفن والدراسة، وانتهت المناقشة بيننا على وجوب التضحية بالدراسة على أن أستكملها في أوقات فراغي وأحاول الحصول على شهادة الدراسة الثانوية من المنزل ثم أنتسب إلى الجامعة، ووافقت على ما توصلنا إليه، ولكن عندما أعلنت قراري هذا إلى زميلاتي وجدت الدموع تنهمر من عيونهن، وحاولت مدرساتي أن يثنينني عن هذا القرار، وتعهد بعضهن بإقناع عز الدين بالعدول عن هذا القرار، لكنني شكرتهن على شعورهن لعلمي بأن هذا مستحيل، فأنا التي ستشقى من وراء حملي لهذه النواحي المتشعبة الثلاث. وعدت إلى منزلي لأنظم حياتي الجديدة (الحياة الزوجية) ودوري كربة البيت، وانتقلنا من فندق «الكونتيننتال» إلى الشقة التي أعددناها في مصر الجديدة، وقد أشرفت بنفسي على تأثيث هذه الشقة وتوفير أسباب الراحة فيها، وحرصت على أن أحيط حياتي الزوجية بالجو الذي ينمي فيها السعادة.
بعد عدة أشهر من الزواج شعرت بأنني في انتظار حدث سعيد، وقررت أن أمتنع عن العمل. ورغم كل المتاعب التي تصادفها الحامل أيام الحمل فإنني كنت سعيدة سعادة لا حد لها وأنا انتظر مولودي الأول، وكانت تسليتي الوحيدة هي إعداد متطلبات واحتياجات المولود وزيارة الطبيب بشكل يومي وممارسة الرياضة المناسبة والقراءة، وفي أول يناير (كانون الثاني) من عام 1951 رزقني الله بابنتي الحبيبة «نادية»، وكانت أسعد لحظات حياتي هي تلك التي سمعت فيها صرخاتها الأولى، لقد كان بكاؤها أشبه بقطعة موسيقية ملأت قلبي بالطرب والفرح، واستخدمت مربية خاصة تتولى العناية بها لكني لم أترك لها فرصة القيام بواجبها كمربية فقد كنت أتولى بنفسي كل شيء كانت تحتاج إليه.
وبعد مدة الراحة التي أعقبت مرحلة ما بعد الحمل والولادة عدت إلى العمل السينمائي، وكان ذلك بعد ولادة نادية بثلاثة أشهر، وكان في انتظاري عدد كبير من العقود التي وقعتها وتأجل العمل في أفلامها حتى يتم الحدث السعيد، وكان العمل المتواصل أكثر مما تحتمله طاقتي، فقد جاء وقت كنت أجمع فيه بين العمل في فيلمين في يوم واحد، وبلغ عدد الأفلام التي ظهرت لي بعد مولد نادية ثمانية أفلام في موسم (1951 – 1952)، وقررت أن أرسم لنفسي سياسة جديدة هي عدم الظهور في أكثر من أربعة أفلام كل عام، وأن أحرص على أن تكون قصصها والوسائل الفنية فيها مما يساعدها على النجاح، فلم يكن هدفي الكسب وحده بل النهوض بالمستوى الفني في كل أعمالي الفنية، خاصة وأنا أحب عملي السينمائي حبًا جمًا، ولكن هذا الحب لم يمنعني من أن أعطي «ما لقيصر لقيصر.. وما لله لله»، فقد كنت أقوم بواجبي على الوجه الأكمل كربة بيت وأم وفنانة، وإن كان هذا العمل قد جنى على صحتي وأعصابي، وكانت نظراتي للفن وآرائي الفنية تتطور يوما بعد يوم حتى جاء ذلك اليوم الذي شعرت فيه بواجب ضخم نحو الفن الذي أحببته، ورأيت أن أتحرر من سيطرة المنتجين وآرائهم ومطالبتهم كتجار، فقررت أن أنزل إلى ميدان الإنتاج وأن أفعّل عمل الشركة التي كان قد أسهم والدي في تأسيسها مع عز الدين وأنتج أفلاما لحسابي، واستقر رأيي على أن أنتج فيلما واحدا كل عام تتوافر فيه أسباب النجاح الفني أولا، وكان أول فيلم أنتجته لحسابي هو «موعد مع الحياة» الذي تولى إخراجه زوجي عز الدين ذو الفقار، وصادف هذا الفيلم من النجاح الفني والمادي الشيء الكثير، واعتبره النقاد من الأحداث الفنية الكبرى التي تصنع تاريخ السينما المصرية. لقد وصلت به إلى قمة المجد، وأطلقوا عليّ حينذاك اللقب الذي رافقني طوال رحلة حياتي الفنية والعامة والمحبب إلى قلبي دائما «سيدة الشاشة العربية»،
والحقيقة أنني كنت أندمج في الأدوار التي أجسدها وكنت أعيش هذه الأدوار، وعندما كان يتطلب مني الموقف البكاء كنت أذرف الدموع دون أن أستعمل أي وسيلة لذلك، وكنت أعيش في دوامة السينما، ولم لا وأنا التي كانت دائما في «الاستوديو» أمام الكاميرا أو خلف الكاميرا تذاكر السيناريو؟