لكثرة الخضات والازمات التي تعصف بمنطقة الشرق الاوسط منذ قيام دولة اسرائيل وما قبل الحرب اللبنانية، وبسبب انشغال العالم الغربي بالنفط العربي ومشاريع اعادة ترسيم حدود دول المنطقة ومحاولة خلق دويلات مذهبية غير منسجمة بتركيبتها وحدودها التي ترسم بالدماء ومشاعر العداء والكراهية، بدأ العالم بتناسى ان منطقة شرق البحر الابيض المتوسط هي ارض مقدسة بالنسبة للمسيحيين في الشرق الاوسط، خاصة لبنان وفلسطين ومصر.
في فلسطين ولد السيد المسيح ونشر بشارته وصلب وقام وصعد الى السماء، ومن تلك الارض انطلقت البشارة الى العالم.
والى مصر لجأت العائلة المقدسة طوال 7 سنوات لحماية الطفل يسوع من اضطهاد هيردوس. وفي جليل لبنان نشأ السيد المسيح وزار جبال حرمون (جبل الشيخ) وصيدا وصور واجترح اول اعجوبة تحويل الماء الى خمر في قانا ليثبت انطلاق رسالته ويبارك سر الزواج ويرمز الى العشاء السري الذي يؤسس للذبيحة الالهية وانطلاق اسرار الكنيسة.
هذه الارض تقدست مع المسيح وثبتت بالايمان بعد ان تحولت المنطقة الى المسيحية دون عنف او ارهاب او مذابح، فتقدست بالتالي بصلوات القديسين الاوائل.
التحولات التي شهدتها تلك المنطقة اثرت سلباً على الوجود المسيحي، خاصة حالة الاضطرابات التي لم تجد حلولاً جذرية لها. فعدم الاستقرار والاستعمارات المتتالية والحروب والمجاعات والاضطهاد المنظم والموجات الاصولية الرافضة للآخرين دفعت العديد من المسيحيين بالدرجة الاولى الى الرحيل نحو بلدان اكثر امناً وازدهاراً وسلامة اجتماعية.
وفي خضم هذه الازمات يطل قداسة البابا فرنسيس ليعلن تطويب مريم بواردي وماري الفونسين غطاس قديستين من ارض فلسطين.
ويأتي هذا الاعلان ليذكر مجدداً بقداسة الارض التي انبتت وما تزال تنبت قديسين.
ورافق هذا الاعلان موقف آخر لا يقل اهمية عن حدث التقديس، اذ اعترف الفاتيكان رسمياً بدولة فلسطين على ان تشمل اراضي ما قبل حرب حزيران 67 وتكون القدس عاصمة مفتوحة للجميع.
وجاءت ردود الفعل متضاربة حيال هذا الموقف، رغم انه موقف تقليدي للفاتيكان الذي طالما طالب بالاعتراف بدولة فلسطين واعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه على ارضه.
فاعربت اسرائيل عن خيبة املها واعتبرت مصادر حكومية ان استخدام الفاتيكان عبارة «دولة فلسطين» لا يخدم مفاوضات السلام بل يهدد مسيرتها، وذهبت مجموعة صهيونية ناشطة في الولايات المتحدة الى اعتبار هذه العبارة لتهدئة خواطر المسلمين تعبيراً عن ضعف الكنيسة الكاثوليكية في وجه الاصولية الاسلامية.
لكن يتناسى هؤلاء ان حاضرة الفاتيكان كانت تستخدم عبارة «دولة فلسطين» في جميع المراسلات الديبلوماسية والمناسبات الرسمية، ورحبت بالسفير الفلسطيني في حاضرتها وايدت قبول فلسطين كعضو مراقب في الامم المتحدة سنة 2012.
وتذكر مراجع في الفالتيكان ان البابا فرنسيس خلال زيارته للاراضي المقدسة، توجه في كلمته الى الرئيس محمود عباس، كرئيس لدولة فلسطين وادرج اسمه على برنامج الزيارة كرئيس لهذه الدولة، وسعى الى جمعه مع رئيس دولة اسرائيل في الفاتيكان على امل تقريب وجهات النظر ومعالجة نقاط الخلاف وفتح نافذة مشعة تؤدي الى علاقات بين البلدين تقوم على الاعتراف المتبادل والعيش بسلام جنباً الى جنب.
ويذكر موقف قداسة البابا مرة اخرى ان 137 بلداً عضواً في الامم المتحدة صوتوا في ايار من العام الماضي للاعتراف بدولة فلسطين وان برلمان كل من بريطانيا وفرنسا واسبانيا وايرلاندا اتخذ قراراً يدعو فيه حكومة هذه البلدان الى ضرورة الاعتراف بدولة فلسطين.
والى جانب الموقف التقليدي للكنيسة والمؤيد لمنح الشعب الفلسطيني كامل حقوقه على ارضه، يتمايز قداسة البابا فرنسيس بمواقفه المؤيدة للمضطهدين والمظلومين والمرضى والفقراء، وكل من يعيشون على هامش المجتمعات.
وهو لم يتردد بوصف المجازر الارمنية على انها «عملية ابادة»، ولم يتردد من لقاء الرئيس الكوبي رؤول كاسترو قبل ان يتجرأ الرئيس اوباما على لقائه، ودعا الاتحاد الاوروبي لبذل المزيد من الجهود لمعالجة قضايا اللاجئين الى اوروبا من شمال افريقيا، خاصة ان هذه الظاهرة لا تخلو من المخاطر المميتة.
وتتطرق وثيقة التفاهم بين الحبر الاعظم والرئيس الفلسطيني الى قضية الوجود المسيحي في فلسطين وتناقش قضاياهم الحياتية ونشاطهم الكنسي، والى املاكهم وكنائسهم وحجم الضرائب التي يدفعونها والى امور رعاية وحماية الاماكن المقدسة. امور تبدو كأنها بيروقراطية، غير انها ترسل مؤشرات ايجابية تدعم المجموعات المسيحية من الشعب الفلسطيني بعد ان تحولوا الى اقلية ضمن اقلية.
غير ان التاريخ يثبت ان موقف الكنيسة الكاثوليكية الثابت حيال القضية الفلسطينية لم يكن قطعاً بهدف حماية الوجود المسيحي في الاراضي المقدسة. فالمؤرخ المستشرق غاري بورج الذي لديه مؤلفات عديدة حول الصراع الاسرائيلي الفلسطيني يؤكد في اكثر من موضع الى مسيحيي فلسطين بعكس المسلمين واليهود لم يبدو خلال تعايشهم مع الآخرين اي شكل من مظاهر التطرف الديني والاصولية العقائدية. ويأتي بورج على ذكر قول شهير للعاهل الاردني السابق الملك حسين عندما قال ان المسيحيين العرب هم كالغري الذي يحافظ على وحدة التركيبة الاجتماعية المتراخية والدقيقة في الشرق الاوسط.
وتكريس الراهبتين يأتي ليذكر بهذه الحقيقة وبأهمية التلاحم الاجتماعي، خاصة في هذه الظروف العصيبة التي تعصف بالمنطقة بكاملها ويراد منها تفتيتها وليس الوحدة والجمع بين سكانها.
مسلمون ومسيحيون ويهود يتمسكون بارضهم ومواقفعهم رغم كل التهديدات ويفضلون ضمناً العيش معاً بسلام.
والمعاهدة بين الفاتيكان ودولة فلسطين تؤكد مرة اخرى ان الكنيسة الكاثوليكية تبارك اصرارهم على البقاء وتدعم والتعايش فيما بينهم على امل ان يعم السلام ويحدث تبدل إيجابي في اقدس واخطر منطقة في العالم.