كان اسبوع الميزانية حافلاً بالتعليقات والتحليلات عن الرابحين والخاسرين، وكيف سيكون وقع الميزانية، ورود الأفعال عليها من النواحي الإقتصادية والسياسية والمصلحة الوطنية.

بعد ميزانية العام الماضي، والتي لاقت ردود أفعال سلبية لدى الناخبين وعدم موافقة مجلس الشيوخ على بعضها  لما حملته من نقض لوعود انتخابية  مثل فرض رسوم على زيارة الطبيب او زيادة الرسوم الجامعية  واقتطاع 80 مليار دولار من تقديمات الحكومة الفيدرالية للولايات المخصصة لقطاعي الصحة والتعليم، وعدم منح علاوات البطالة لمدة 6 أشهر لمن هم دون سن 30 وغيرها، والتي كان ينوي من خلالها وزير الخزينة جو حقي وقف عصر المستحقات، كما كان قد وعد قبل وصول الإئتلاف (احرار – وطني) الى السلطة عام 2013. كادت التداعيات السياسية لتلك الميزانية ان تطيح بزعامة رئيس الوزراء لدرجة ان طرحت الثقة به داخل مجلس الحزب وكان الفارق بالأصوات بينه وبين الخسارة 12 صوتاً علماً ان التحدي حصل من دون منافس.

منذ ذلك الوقت، بدأ رئيس الوزراء مقاربة جديدة واعداً زملاءه بأنه سيستمع الى آرائهم واجرى تعديلاً وزارياً كان نوعاً من المناقلات بين الوزراء دون ادخال وجوه جديدة. العملية اعتبرت نوعاً من المكافأة السياسية لزملائه الذين دعموه بعد طرح الثقة به.

كأي سياسي، وضع رئيس الوزراء نصب عينيه هدفين، اولهما البقاء على رأس الفريق الحكومي، وثانيهما تحسين ظروف الحكومة بالعودة الى الحكم دروة ثانية. بدأ ذلك بسلسلة من التراجعات كان ابرزها ترك خطته السخية لمكافأة الأمهات العاملات من خلال علاوة اجازة الأبوة والأمومة والتي كانت ستدفع 75 ألف دولار عن 6 أشهر لكل امرأة تحصل على إجازة الأمومة وقد خفص المبلغ لاحقاً الى 50 ألفاً ليعود رئيس الوزراء ويتخلى كلياً عن العلاوة، حتى ان الحكومة في ميزانيتها الجديدة للعام المالي 2015-2016 قررت وقف العمل بقوانين إجازة الأمومة المعمول بها حالياً، حيث تحصل العائلة المستحقة على العلاوة المقدمة من الحكومة (18 شهراً بمعاش الحد الأدنى) بالإضافة الى العلاوة التي يقدمها أرباب العمل حيث لم يعد بالامكان الحصول الا على علاوة واحدة.

رئيس الوزراء وقبل تقديم ميزانية حكومته الثانية، قال ان الميزانية ستكون «مملة» لكن الميزانية كانت كل شيء الا مملة وعلى اكثر من صعيد، على الصعيد المالي وبعد ان اعلنت الحكومة العام الماضي حالة طوارئ مالية لسد العجز في المزانية ووقف تضخم الدين العام، نراها تعتمد سياسة مالية كلها محفزات وبعيدة كل البعد عن التقشف وشبيهة بالتقديمات التي قدمتها كحومة كيفن راد اثناء الأزمة المالية العالمية عام 2008-2009 وان اقتصرت على قطاعات بعينها كالمصالح الصغيرة التي حصلت على مبلغ 5.5 مليار دولار، او قطاع رعاية الأطفال الذي حصل على 4.4 مليار علماً ان الثانية سيبدأ العمل بها العام 2017، هذه التقديمات وغيرها سترفع العجز الى 35 مليار دولار حسب التوقعات الحكومية وان الدين العام سيرتفع الى 18% من الدخل الوطني.

على صعيد اصلاح النظام الضريبي، لم تأتِ الميزانية لا من قريب ولا من بعيد على ذكر الموضوع خصوصاً الجانب المتعلق بالتسهيلات الضريبية للمستثمرين في القطاع العقاري المعروف (بنيكاتيف غيرينك) او الأرباح على رأس المال او الإعفاءات الضريبية على قطاع معاشات الإدخار التقاعدي للإغنياء او تعديل ضريبة السلع والخدمات (جي أس تي).

على صعيد قطاع التوظيف ورغم ارتفاع الإنفاق الحكومي فإن الحكومة تتوقع ارتفاع نسبة البطالة عن معدلها الحالي 6.3% خصوصا اذا لم يصل النمو الاقتصادي الى المستوى الذي تتوقعه الحكومة 3.5%.

أما على الصعيد السياسي وهنا مربط الفرس، فقد حرّكت الميزانية الرهانات عن امكانية اقدام الحكومة على حل مزدوج للبرلمان بمجلسيه (النواب والشيوخ) والذهاب الى انتخابات مبكرة، وهذا ما يتطلب فترة انتظار لا تقل عن ثلاثة الى اربعة أشهر لمعرفة درة فعل الناخبين على الميزانية من خلال استطلاعات الرأي، والتي بدأت تأتي ثمارها، فحسب استطلاع  فيرفاكس ايبسوس الذي نشرته صحيفة ذي سدني مورننغ هيرالد الاثنين 18/5/2015 فقد تحسنت شعبية الحكومة لتتساوي مع شعبية المعارضة 50-50 لأول مرة منذ شباط العام الماضي، وجاء في الاستطلاع ايضا ان رئيس الوزراء تقدم على زعيم المعارضة كمفضل لرئاسة الوزراء بنسبة44% مقابل 39%. وقد بدأ الحديث عن امكانية الاستفادة من تحسن الوضع الحكومي بعد الميزانية واستغلال هذه الفرصة للذهاب الى انتخابات مبكرة خوفا من تبخر الدفع الذي حصلت عليه الحكومة وفقدان اية امكانية للحد من العجز بالميزانية في العام 2016 مما يجعل الحكومة مكشوفة سياسياً. وهنا لا بد من التساؤل عن اهم عقبات الذهاب الى انتخابات مبكرة ابرزها هل يقدم رئيس الوزراء على المجازفه بمنصبه مع انه يرغب باتمام الفترة الكاملة لحكومته رغم ان الميزانية اعادة له توازنه السياسي؟

المعارضة الفيدرالية في ردّها على الميزانية دخلت في سباق سياسي محموم مع الحكومة، ففي الوقت الذي دعم فيه زعيم المعارضة بيل شورتن التقديمات لأصحاب المصالح الصغيرة وبرامج رعاية الأطفال والديون المخفضة للمزارعين، الا انه ذهب ابعد من الحكومة بالنسبة للتخفيضات الضريبية على المصالح الصغيرة من 30% الى 25% علماً ان الحكومة وعدت بتخفيض 1.5% فقط. ودعى زعيم المعارضة الى تشجيع المزيد من الطلاب في الحصول على الشهادات في مجالات الهندسة والتكنولوجيا، العلوم والرياضيات متعهداً بإعفاء 100 ألف طالب من كل الرسوم، ودعى شورتن الى انفاق 3% من الدخل القومي على الأبحاث العلمية. واعتبر شورتن ان الحكومة عملت على إعادة تغليف الميزانية السابقة خصوصاً في ما يتعلق بالرسوم الجامعية واقتطاع مبلغ 80 مليار عن الولايات الذي لم تأتي على ذكرها في الميزانية الحالية، ورأى ان الميزانية تهدف الى المحافظة على وظيفة شخص واحد هو طوني أبوت.

وفي معرض ردها على الميزانية  وكما فعلت الحكومة لم تأتِ  المعارضة على ذكر الإصلاح الضريبي ما خلى التطرق الى امكانية فرض ضرائب على تقديمات معاشات الإدخار للأغنياء.

الملاحظ هنا، ان الحكومة و المعارضة لم تعلنا عن كيفية تمويل المشاريع والإنفاق الا بالمزيد من الإستدانة والمزيد من العجز. ورأى الخبير بشؤون الميزانية كريس رتشردسون من مؤسسة (ديلوات اكسس الإقتصادية) ان لا حل لهذه المعضلة الا بعمل الحزبين معاً (س م ه 16/أيار/2015 قسم ما وراء الأخبار ص 28) هذا مع العلم بأن متوسط الدين في دول منظمة التعاون الإقتصادي والتنمية يبلغ 70% من الدخل القومي بينما سيبلغ في استراليا 18% وبرأيي فإن هذا يجب الا يكون دعوة للإسترخاء المالي والنقدي والإقتصادي، او اتباع سياسة تمويه مالية كما قالت المحللة الإقتصادية آديل فيركسون التي عنونت مقالتها «الدفعات النقدية جزء من المهزلة المالية» (س م ه 13/05/2015 ص 11).

يبدو ان اهم الخاسرين من الميزانية هو الإصلاح المالي والإقتصادي الحقيقي البعيد المدى، حيث ان اولويات الحكومة حل مشاكلها السياسية، وهذا ما يؤكده رئيس الوزراء الأسبق الأحراري جان هاورد الذي رأى ان الميزانية اخذت بالإعتبار «الحساسية السياسية» ويذهب بهذا الأتجاه محرر الشؤون السياسية في صحيفة سدني مورنيغ هيرالد بيتر هارتشر الذي قال:» ان ضحايا الطموح السياسي لأبوت هو الطموح المالي (س م ه 13/05/2015 ص 16).

أخيراً اعتقد ان الناخب الأسترالي يملك قدرة التمييز بين السياسات الغثة والسياسات البناءة، وانه على استعداد للتضحية في حال وجد الزعيم الذي يصارحه بالحقائق مسبقاً، فحتى يأتي هذا الزعيم (هو او هي) علينا الإنتظار مع المزيد من الديون والعجز في الميزانية مع استمرار الحفلات التنكرية الإنفاقية.

عباس علي مراد

سدني- استراليا

Email:abbasmorad@hotmail.com