… كنا نتحدث في الحلقة الثالثة حول شخصية السيدة فاطمة بنت النبي محمد صلى الله عليه وآله حول سورة الكوثر… والكوثر هو الخير الكثير وله معنى واسع يشمل كل خير وهبه الله لنبيه «ص» ومصاديقه كثيرة..
ومن اوضح تلك المصاديف الزهراء لأن رواية سبب النزول تبين ان المشركين وصموا النبي بالأبتر – اي الذي لا عقب ولا نسل له – فالأبتر هوالعاص بن وائل وابنه عمرو كما تصدع الاية الكريمة والسورة بآياتها الثلاث تخاطب رسول الله «ص» بضمير المخاطب.
«إنا أعطيناك… فصلِ لربك وانحر – إن شأنئك..»
فنسل رسول الله «ص» انتشر وامتد في كل اصقاع الارض بواسطة إبنته الكريمة ويُعد بعشرات الملايين، بل هو بمئات الملايين من عصره المبارك الى عصرنا الحاضر…
ولو لم يكن من نسله وذريته الا الحسن والحسين عليهما السلام والتسعة المعصومون من ذرية الحسين – السجّاد والباقر والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري الزكي والمهدي المنتظر – صلوات الله وسلامه عليهم لكفى ذلك تكريماً وتعظيماً.. وطبعاً فإن معيار التقييم هوالتقوى «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
وهم الأوصياء المطهرون، الأتقياء الهادون المهديون المنتجبون العابدون الصابرون الصالحون… …
وكل من ينتسب الى السيدة فاطمة الزهراء وامير المؤمنين علي عليهما السلام فهو من نسل النبي «ص» وذريته، دون غيرهم.
فأبناء امير المؤمنين من غير سيدتنا الزهراء ليسا من ذرية النبي «ص» بل هم ابناء علي وكذلك ابناء عقيل بن ابي طالب وابناء العباس بن عبد المطلب… فهم طالبيون وعباسيون وهاشميون قرشيون… وهنا تفصيلات تراجع في مظانها…
ويثبت الانتساب لرسول الله «ص» بالبيّنة ويكفي في الثبوت الشياع والاشتهار – في بلد المنتسب – كما يكفي كل ما يوجب الوثوق والإطمئنان به كما يذكر آية الله العظمي السيد ابوالقاسم الخوئي رحمه الله…
وقد حاول البعض اتهام الفاطميين باستثمار الانتساب للسيدة فاطمة عليها السلام وشكك في ذلك، واطلاق التسمية على دولتهم الفاطمية إنما كان لمواجهة العباسيين وكأنهم يقولون نحن ابناء فاطمة، والسيدة فاطمة هي بنت النبي صلى الله عليه وآله وهي اقرب اليه من العباس بن عبد المطلب.. لأن العباس عمه وفرق واضح بين البنت والعم.. وبالتالي فهو شعار سياسي… وهذا كله يحتاج الى بحث وتحقيق…
ولا ريب ان الانتساب الىالنبي العظيم محمد صلى الله عليه وآله هو شرف يوجب الحمد والشكر لله تعالى، لكنه ليس ميزاناً للتقييم ولا معياراً – كما تقدم … – فلا بدّ من التقوى والعمل والإخلاص فرسول الله جدُّ كل تقي ولو كان عبداً حبشياً…
وقد كان هناك دور كبير لذرية النبي «ص» وسط الأمة في حفظ الإسلام – ودور اهل بيته يكشف اللثام عن هذه الحقيقة… …
وكذلك دور الصفوة من الذرية الطاهرة، حيث كان الطغاة يخشونهم ويضعون الخطط لمواجهتهم وتصفيتهم مع انصارهم… دون خشية من الله سبحانه ودون حياء وخجل من رسول الله «ص» فشردوهم وضيّقوا عليهم الخناق… وهناك قصة تبين لنا حجم المأساة ذكرها ابو الفرج الأصفهاني وباختصار عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب، ولد في الوقت الذي اشخص فيه ابوه زيد بن علي الى هشام بن عبد الملك، وكانت ام عيسى بن زيد معه في طريقه، فنزل ديراً للنصارى ووافق نزوله إياه ليلة الميلاد وضربها المخاض هنالك فولدته له تلك الليلة، وسماه ابوه عيسى بإسم المسيح عيسى بن مريم صلوات الله عليهما…
وفي زمن المهدي العباسي… وبعد حرب قاسية كان عيسى مع اخيه اشد الناس قتالاً وانفذهم بصيرة، توارى بالكوفة في دار علي بن صالح. وبعد فترة طويلة التقى مع ابن اخيه يحي بن الحسين فيشرح له حاله: وقد تزوجت الى هذا الرجل ابنته وهو لا يعلم من أنا الى وقتي هذا، فولدت مني بنتاً فنشأت وبلغت، وهي ايضاً لا تعرفني ولا تدري من أنا، فقالت لي امها: زوّج إبنتك بإبن فلان السقّاء – لرجل من جيراننا يسقي الماء – فإن أيسر منا وقد خطبها، وألحت عليَّ ، فلم اقدر على اخبارها بأن ذلك غير جائز، ولا هو بكفء لها فيشيع خبري، فجعلت تلح عليَّ فلم أزل، استكفي الله امرها حتى ماتت بعد ايام، فما أجدني آسي علي شيء من الدنيا أساي على انها ماتت ولم تعلم بموضعها من رسول الله صلى الله عليه واله… …/ مقاتل الطالبين.
# # #
وعَوْداً على بدء فإن السيدة الزهراء لها مكانتها العظمى، اصطفاها الله وفضلها وبلغت قمة الإخلاص والعبادة، ولقد شكك البعض في تفضيلها فكانت «الكلمة الغراء في تفضيل فاطمة الزهراء» للمقدس السيد عبد الحسين شرف الدين طاب ثراه، ألقاها جواباً لمن سأله:
هل للامامية دليل يعتبره خصومهم في تفضيل فاطمة الزهراء عليها السلام على سائر هذه الأمة؟ وما ذلك الدليل والحجة؟
فأجاب رحمه، مركزاً على مطلبين اثنين، المطلب الاول: في دلالة الكتاب والمطلب الثاني: في دلالة السنة المقدسة.
في المطلب الاول حسبك من محكمات – القرآن – البينات «آية المباهلة وآبة التطهير وآية المودة في القربى وآيات الأبرار»…
… ونتوقف هنا عند آية المودة في القربي، قال تعالى «قل لها اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى، ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً إن الله غفور شكور» الشورى 23.
اجمع اهل البيت وتصافق اولياؤهم في كل خلف على ان القربى هنا انما هم علي وفاطمة وابناهما، وإن الحسنة في الآية إنما هي مودتهم، وإن الله تعالى غفور شكور لأهل ولايتهم وهذا عندنا من الضروريات المفروغ عنها، وفيه صحاح متواترة عن أئمة العترة الطاهرة وإليك ما هو مأثور عند غيرهم.
«ونختصر ذلك» بما اورده ابن حجر في الفصل الاول من صواعقه:
عن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال «ص»: علي وفاطمة وابناهما.
وفي كشاف الزمخشري، «قال ص : من مات على حب آل محمد مات شهيداً الا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، الا ومن مات على حب آل محمد مات تائباً. الا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، الا ومن مات على حب آل محمد بشّره ملك الموت بالجنة ثم منكر ونكير، الا ومن مات على حب آل محمد يزف الى الجنة كما تزف العروس الى بيت زوجها، الا ومن مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة، الا ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، الا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، الا ومن مات على بغض آل محمد مات كافراً، الا ومن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة ومكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله.
وانت تعلم ان هذه المنزلة السامية إنما ثبتت لهم من الله تعالى، لأنهم خلفاؤه في ارضه، واولياؤه وحججه البالغة ومناهل شرائعه السائغة، وأمناؤه بعد النبي «ص» على وحيه، وسفراؤه في امره ونهيه، فالمحب لهم بسبب ذلك محب لله، والمبغض لهم مبغض لله، ومن هنا قال فيهم الفرزدق:
من معشر حبهم دين وبغضهم
كفر وقربهم منجىً ومعتصم
إن عُدّ اهل التقى كانوا أئمتهم
او قيل من خير اهل الارض قيل هم
واخرج الحاكم – كما في تفسير هذه الآية من مجمع البيان – بالاسناد الى ابي أمامة الباهلي قال : رسول الله «ص» : «إن الله تعالى خلق الأنبياء من اشجار شتى، وخُلقت أنا وعلي من شجرة واحدة، فأنا اصلها وعلي فرعها،وفاطمة لقاحها والحسن والحسين ثمارها، وأشياعنا أوراقها، فمن تعلق بغصن من اغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى ولو ان عبداً عبد الله ألف عام ثم ألف عام ثم ألف عام حتى يصير كالشّن البالي وهو لا يحبنا كبّه الله على مخزيه في النار »…
ثم تلا : «قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى»…
وأخرج البزّاز والطبراني وغيرهما كما في الصواعق وغيرها، عن الإمام ابي محمد الحسن السبط المجتبى «عً بطرق مختلفة انه خطب خطبة قال فيها: «وانا من اهل البيت الذين افترض الله عز وجل مودتهم وموالاتهم فقال فيما انزل على محمد صلى الله عليه وآله: «قل لا أسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى، ومن يقترف حسنة نزد له حسناً، قال: واقتراف الحسنة مودتنا اهل البيت».
… واخرج احمد بن حنبل كما في الصواعق عن ابن عباس في قوله تعالى: «ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً» قال: هي المودة لآل محمد.
… وعن ابن عباس انه لما استحكم الإسلام بعد الهجرة ثالث الأنصار: نأتي رسول الله فنقول له: قد تعوزك أمور فهذه اموالنا تحكم فيها كيف شئت. فأتوه بذلك . فنزلت الآية فقرأها عليهم وقال: تودّون قرابتي من بعدي، فخرجوا مسلمين لقوله. وقال المنافقون: ان هذا لشيء افتراه في مجلسه اراد به ان يذلّلنا بقرابته من بعده فنزلت : «أم يقولون افترى على الله كذباً».
وللأسف فقد حاول البعض صرف الآية عن وجهها، لكن الإمام شرف الدين رد على ذلك بتفصيل في «الكلمة الغراء».
… وناهيك بذلك حجة على ما قلناه، على ان تفسير القربى هنا بعلي وفاطمة وابنائهما، هو الذي ذهبت اليه جماهير اهل السنة وقطعت به أكابرهم، وحسبك قول إمام الخلف منهم والسلف محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله.
يا اهل بيت رسول الله حبكم
فرض من الله في القرآن انزله
كفاكم من عظيم القدر انكم
من لم يصلّ عليكم لا صلاة له
وقول الشيخ ابن عربي:
رأيت ولائي آل طه فريضة
على رغم اهل البعد يورّثني القُربى
فما طلب المبعوث اجراً عن الهدى
بتبليغه الا المودة في القربى
وقال المعاصر النبهاني:
آل طه يا آل خير نبي
جدكم خير وأنتم خيار
اذهب الله عنكم الرجس اهل
البيت قدماً فأنتم الأطهار
لم يسل جدكم على الدين اجراً
غير ودّ القربى ونعم الاجار
… ويبقى ان نتأمل قوله تعالى: «قل لا اسألكم عليه اجراً الا المودة في القربى..» فإيجاب المودة، إنما هو لإرجاع الناس اليهم فيما كان لهم من المرجعية العلمية كما يذكر صاحب تفسير الميزان…