عبير حسن العاني:  كاتبة واعلامية عراقية- سدني

أتصل بها بعد طول غياب، حيث ((الظروف السيئة للعمل)).. بررَّ لها من جديد، لتصدقه من جديد!
كانت الغيبة طويلة هذه المرّة.. اتفقا على اللقاء في نفس المكان.. ونفس الوقت..
وقفت وقفتها المعتادة في نفس الشارع الذي أعتادت أن تنتظره فيه، والذي التقته فيه للمرّة الأولى قبل ست سنوات!!
كانت اللهفة تملؤها، وكانت تحاول أن تقنع عينيها بالصبر فسوف تراه بعد دقائق!!
كانت تقنع مشاعرها.. أنوثتها.. الأيام العشر الماضيات ((لقد كانت دهراً كاملاً!!)).. كانت تقنع ((كلّها)) بأنها ستراه من جديد، لتعود الحياة حياة من جديد.
لمحت شبحا ً لسيارته القديمة البالية من بعيد.. ((يا الهي.. هل هذه هي السيارة؟)) السيارة البالية التي تثير ضحك العالم وسخريتهم وتثير كل ما فيها من أحاسيس، كيف لا ورائحته تملأ كل فضاءاتها. تلك السيارة التي شهدت أجمل ذكريات..أول قبلة.. أعذب الأغنيات.. الدفء الذي ملأها في ذروة الشتاء.. الدموع التي نزفتها فيها حين قررت أن تودعه يوماً ولم يصمد ذلك القرار لأكثر من ساعة!
((نعم إنها هي.. إنه هو))..
أوقف السيارة مبتسماً إبتسامة جديدة .. كانت باردة، لكنها كانت تريد أن تستمر في مجابهة حدسها الذي يدرك أن حبيبها مجرد ((أكذوبة))! لا يهم.. هي تراه كما تحب أن تراه وحسب!
– مرحباً ياحبيبتي..
– أهلاً قالتها بلهفة ٍمبتسمة وهي تفتح باب السيارة لتصعد.
كانت تتأمله.. تتفحص تفاصيله.. تكاد تلتهمه باشتياقها.. وهو كان ينظر الى الأفق ولم يلتفت لها الاّ بعد دقائق ليست بالقصيرة..
كانت تنتظر أن يبادر هو بالأسئلة، وبالفعل بادرها قائلاً: ما أخباركِ؟
أبتسمت وقالت: أنتظرك!
ضحك ضحكة «المنتصر» ثمّ عاد ليسأل:
– ما جديدكِ؟
ابتسمت من جديد ابتسامتها الطفولية وقالت بصوتها العذب:
– أحبك!
فضحك ضحكة مَن يملك الدنيا وما بها وأراد ان يؤكد انتصاره أكثر:
– وما قديمكِ؟
وما زالت تفيض سحرا ً وانوثة وهي تردد:
– أحبكَ!
صمتَ الأثنان وكأنَّ كل موضوعات الدنيا قد نفذت.. كان كل منهما كمن يبحث عن موضوع ليتكلم به، لكنهما عجزا عن ايجاد أي أمر مشترك!
وفجأة.. أنتفض ليفاجئها بصوته العالي:
– ها.. نسيت أن أقول لكِ..
أبتسمت وهي تنتظر ما تتوقعه.. ما تتمناه من مفردات بسيطة تحيي سكونها الميت ((اشتقت اليكِ..اكتشفت ان الحياة دونكِ عدم.. كانت الأيام الماضية قاتلة…..)). وضعت آلاف الأحتمالات ((الوردية)). بادرها قائلا ً:
–  سأبيع السيارة.. وبسعر أقرب مايكون للخيال.
فضحكت.. ربما من نفسها أولا ، وقالت بلهجةٍ ساخرة لم يتبينها:
– مبروك!
فقال وما زال في ثورته:
– أحزري بكم سأبيعها؟ كم تساوي برأيك؟ كانت تود أن تقول له: ((تساوي عمري كلّه))، لكنّها فضّلت الهزيمة لحدس يصارعها بعنف يتوازى وعنف لهفتها.
ثم َّ أضاف:
– تعرفين انها لا تساوي شيئا ً.. انها بالية ونصف معطلة، لكنهم دفعوا فيها سعرا ً لا تتوقعينه.
همست داخلها:
((نعم..هنالك الكثير مما لا أتوقعه..عليَّ التسليم به الآن!))
أستمرّت في الحوار مستسلمة للصوت الذي يلحّ داخلها هذه المرّة، كي تحاول أن تُسقِط المزيد من الأقنعة:
– وكيف ستأتيني ان بعتها؟
فتغيرّت لهجته وخفتَ صوته وأجاب:
– قد لا أستطيع القدوم اليكِ الأيام المقبلة وسأحاول ان أوفر مبلغا ً في الأشهر القادمة لأضيفه الى ثمن بيعها مع المبلغ الذي تملكين لأشتري سيارة أخرى أفضل.
((الأشهر القادمة.. انه يتحدث عن الأشهر! وأنا أمضيت ليلة أمس أعد ُّ لحظاتها كي يأتي الصباح لأرى شمسه في وجهه..
فلتشترِ سيارة أفضل.. ولتجد أمرأة أفضل مني.. فأنا أمرأة تهتمُّ بالتفاصيل الصغيرة.. تقدسها..لأنها تختصر الأمور العظيمة .. وتُسقِط أقنعة عديدة..
أنا أمرأة.. أذا أحبت..أحبت الكل لا الجزء..
أنا أمرأة.. لا تحب الا ّمرّة.. ومن حقها أن تكون هذه المرّة ذات قدسية.
أنا أمرأة أمتزج الحب معها بالمبادىء..لكن الحب اذا هدّدَ بوجوده المبادىء، فليذهب الى الجحيم)) .
لم تكن تدري أن صوتها كان مسموعا ً لديه.. ربما لأن َّ رد فعله كان معدوما ً وهو يقود السيارة بتأن  ودون أي أنفعال..
فجأة ً.. صرخت.. نعم.. صرخت هي هذه المرّة ولاول مرّة يسمع صوتها الحقيقي واضحا ًمدوياً منذ سنوات:
– قف هنا!
وقف بينما يتطلع اليها بدهشة متسائلة.. فتحت الباب ونزلت..اقتحمت الشارع.. ولأول مرّة تنتبه لهذا الكم من السيارات الحديثة.
مشت الى الأمام.. وعاد هو فأدار سيارته ليعود من حيث أتى.
missiraq2002@hotmail.com