لم تمنع «الحزوقة» التي حلّت بازعاج على حنجرة رئيس مجلس النواب نبيه بري من الكلام وبصوت مرتفع أو اخفاء علامات غضبه على عدم تجاوب الكتل النيابية المسيحية في الحضور الى مجلس النواب والمشاركة في الجلسة التشريعية «المعلقة» على شريط من الخلافات والتباعد في وجهات النظر، ولا سيما بعدما امتنع نواب «تكتل التغيير والاصلاح» عن تلبية نداء «تشريع الضرورة» ثم التحاقهم في ما بعد بقطار زملائهم في كتلتي الكتائب و»القوات اللبنانية» ليلتقي هؤلاء على تطيير هذه الجلسة بحجة الحفاظ على حقوق المسيحيين والقول ان الاولوية تبقى لانتخاب رئيس للجمهورية.
ومن يطلع على الموقف الحقيقي لبري من الجلسة التشريعية، يلمس لديه عتباً شديداً على السياسة التي ينتهجها نواب العماد ميشال عون لأنه كان يعول على حضورهم لاضفاء غطاء الميثاقية على الجلسة حتى لو تغيب نواب الكتائب و»القوات».
ويبدو ان هذه القوى الثلاث لا تريد أن تسجل على نفسها أمام ناخبيها والرأي العام المسيحي انها سارت في «تشريع الضرورة» على رغم أهمية المشاريع التي جرى الاتفاق عليها في الاجتماع الاخير لهيئة مكتب المجلس، ولا يحبذ هؤلاء ان يسجلوا على أنفسهم انهم تناسوا الاستحقاق الأهم وهو انتخاب رئيس الجمهورية، الموقع الماروني الاول في لبنان.
ولا يخفي متحمسون لانعقاد الجلسة، سواء كان بري أو سواه من قوى سياسية ونيابية أخرى، القول ان جملة من «المزايدات» تسيطر على مواقف القوى المسيحية ولا تعرف الخروج منها.
ويبقى الامر الذي لا يقنع بري هو تغنّي كثيرين بالديموقراطية وتطبيق الحياة البرلمانية واعمال الرقابة على الحكومة والاتفاقات والعيش في رحابها، وكيف لا يفعلون هذا الامر في قلب ساحة النجمة، وكيف يعطل التشريع عند استقالة حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بذريعة عدم جواز القيام بهذه الواجبات التشريعية في ظل حكومة مستقيلة. ورد آخرون في ما بعد أنه لا يجوز التشريع في ظل عدم انتخاب رئيس للجمهورية، واستمر الامر على المنوال نفسه بعد التمديد الثاني للبرلمان. ويجري في النهاية تعطيل التشريع بالذرائع نفسها والخاسر الشعب اللبناني، مع العلم ان الحكومة تتولى صلاحيات رئاسة الجمهورية ويمكن المجلس التشريع في شكل طبيعي، في وقت تقوم السلطة التنفيذية، في الداخل والخارج بدور رئيس الجمهورية وتطبيق الجزء الأكبر من صلاحياته، وما هو حاصل أن ما يسري على الحكومة لا يطبق على مجلس النواب المكتوب عليه أن لا يشق طريق التشريع.
وما يحزن بري هو ما وصلت إليه طريقة التعاطي مع البرلمان وسط هذه «الحفلة من المزايدات»، علماً أن ثمة مشاريع عسكرية وإنمائية سيخسرها لبنان، وأن ثمة اتفاقات تشترط البلدان التي وُقعت معها مصادقة مجلس النواب عليها. ويبقى «أخطر» هذه المشاريع المهددة ذاك الذي قدمه البنك الدولي لجر المياه من سد بسري إلى بيروت، وللمرة الأولى ينفذ البنك هذا المشروع الذي يفترض أن يشمل الاستملاكات ايضاً، وإذا لم يقر في المجلس فسيخسره لبنان، ونوابه وسياسيوه يتفرجون على هذه الخسائر و»نقول لهذا المشروع وسواه باي باي، في وقت نخسر فيه صدقيتنا امام الحكومات والمؤسسات الدولية».
والسؤال: بعد بروز هذا الخلاف بين بري وعون الى العلن الى اين ستؤدي العلاقة بينهما؟
ثمة من يرى انه من الظلم القول ان العماد عون هو من يعطل التشريع في المجلس ويحرم الجلسة التشريعية الميثاقية المطلوبة لأن الأفرقاء المسيحيين الاخرين لا يركضون وراء التشريع ودب الروح في البرلمان، وتتحمل بكركي جزءاً من هذه المسؤولية من دون التقليل من موقعها وتذكيرها الدائم بالإسراع في انتخاب رئيس للجمهورية.
ويرى هؤلاء أن لا مصلحة وطنية في أن تنفجر بين بري وعون، وأن تبقى خلافاتهما تحت الطاولة ولا مصلحة لأي من الطرفين والبلد ككل في وقوعهما في أزمة جديدة، وان مساحة التلاقي بين الرجلين تبقى أكبر من مساحة التناقض، ولا سيما أن أمام الحكومة محطات صعبة في الايام المقبلة مثل التعيينات في الأجهزة الأمنية والعسكرية التي سيقاتل عون من اجلها وفرض التعيين في الحكومة وقطع الطريق على التمديد، وان تيار «المستقبل» سيتفرج على «حشر» عون والتضييق عليه حتى من داخل بيت 8 آذار، ولا سيما ان «التيار الأزرق» لم يعط عون كلمة نهائية في تعيين العميد شامل روكز قائداً للجيش منعاً لوصوله الى هذا المركز الحساس، إضافة الى عدم إغضاب الكتائب و»القوات» وتقوية الحجة التي تقول ان الاولوية تبقى لانتخاب الرئيس الذي من حقه قول كلمته في رأس هرم المؤسسة العسكرية.
وفي خضم هذا التخبط الذي تعيشه السرايا الحكومية في جلسات مجلس الوزراء وسيطرة «رياح التعطيل» على سماء ساحة النجمة، يستمر بري في سورة غضبه، لأن اللجان تنشط وتعمل وتجتمع من دون ترجمة اعمالها في جلسات تشريعية. ووصل به الأمر الى القول: «هل يستحق النواب رواتبهم التي يتقاضونها من اللبنانيين ولا يبادلونهم ولو بتشريع الضرورة؟».
ويعتقد بري ان هذه السياسة «لا تساعد ابداً في انتخاب رئيس الجمهورية حتى لو فتحت ابواب الحوار بين الدول المؤثرة في المنطقة، وان المشكلة تبقى عندنا وليست في الخارج، وانه في الامكان انتخاب رئيس مع عدم التعويل على انتظار الخارج و “كفى”، حتى لو اجترحت الحلول والتسويات في اليمن وكل المنطقة».