فاطمة مارديني

جلس مينا على كرسيه المتحرك  قرب الباب الامامي للمنزل , يتطلع من خلال الباب الحديدي المشبك الى الخارج , فهو بانتظار الموظفة الاجتماعية وأخصائية المعالجة الطبيعية التي تساعده في القيام ببعض التمارين الرياضية,لتحريك أطرافه بعد اصابته بجلطة دماغية أدت الى شلل نصفه الأيمن ,  ينتظر هذا اليوم من الاسبوع بفارغ الصبر , يستيقظ مبكرا  يرتدي بذلته التي اشتراها من مصر قبيل هجرته الى استراليا منذ سنتين, تستغرب زوجته ليلى الأمر , « ليه الشياكة دي كلها يعني, أنت هتتزوج تاني ! « , يضحك الرجل السبعيني ويقول « كل الحكاية , انو لا منروح ولا بنجي , ولا حد بزورنا هنا ,  خلينا نتأنق شوي « .
يمضي مينا يوميا ساعات في مراقبة الشارع , عله يرى عابر سبيل يكلمه , جلساته تطول بلا جدوى , حفظ عن ظهر قلب أرقام البيوت الراقية المتراصة على الجانبين والمحاطة بحدائق خضراء , ولكنها بنظره كبيوت الجن والعفاريت ,يتساءل « أين سكانها يا ترى , قلما رأى احدا منهم ,لوكانت هذه الحدائق في مصر لامتلأت بالأولاد يلعبون ويمرحون وأصواتهم تلعلع وتصل الى الاحياء المجاورة, ولاجتمعت النسوة يتسايرن ويضحكن ويشربن الشاي» .
يتذكر منذ اسابيع عندما  هلل فرحا برؤية جارة»خواجية» تخرج من بيتها , ناداها مستعينا بالكلمات الانكليزية البسيطة التي تعلمها من حفيدته الصغيرة نانسي , التفتت الجارة باسمة , دعاها الى فنجان قهوة ,اعتذرت بأنها  ذاهبة للعمل , وأخرجت مفكرتها من حقيبتها وقلبت في صفحاتها وقالت « ربما بعد اسبوعين وحددت له التاريخ والوقت ..» ضحك في سره وقال « هو أنا عزمتها على اجتماع لمناقشة الاوضاع السياسية بين مصر واستراليا»؟!.
لايحظى مينا يوميا  سوى برؤية ساعي البريد الذي يقود دراجته النارية فيلقي عليه تحية الصباح ,يرد الساعي برفع يده مبتسما للعجوز , ليضع  بعدها الرسائل في صندوق البريد, ويعود معظمها لابنه الطبيب  سمير وزوجته الصيدلية منى ,اللذين يخرجان في الصباح ولا يعودان الا مع مغيب الشمس, حتى في عطلة نهاية الاسبوع فهما مشغولان مع نانسي بدروس تعلم السباحة ودروس رقص الباليه وحفلات أعياد الميلاد التي تدعو اليها من قبل صديقاتها في دار الحضانة ,يحسد مينا حفيدته ويضحك في سره « هي العيلة مشغولة دايما, مواعيدها أكتر من مواعيد السفير المصري هنا !» ليعترف بعدها بأن  الوقت الذي يقضيه مع نانسي يلاعبها ويمازحها يضفي على  حياته نكهة في الغربة .
وبعد طول انتظار , تصل الزائرتان , يضحك مينا ويفتح لهما الباب , يصرخ لزوجته لتحضر القهوة التركية  ,اعتادت الموظفتان على ممازحة مينا لهما بلغته الانكليزية الركيكة , يسأل الموظفة الاجتماعية أن تشتري له كتاب لقواعد اللغة الانكليزية فهو يريد أن يتعلم اللغة على اصولها , لتبدأ بعدها التمارين , يقاطع مينا الاخصائية أكثر من مرة , ليروي لها عن حياته في مصر, وكيف انه كان مشغولا كل الوقت , ولكن الجلطة التي تعرض لها هناك , أجبرته على الهجرة , فتكاليف العلاج باهظة في بلده ,حيث التأمينات الصحية معدومة,يتكلم بفخر عن ابنه سمير الذي دفع تكاليف السفروالضمانة المصرفية , والآن يقيم في منزله , ويسأل مينا الموظفتين بحسرة « هو الناس هنا ما بزورش بعض ليه ؟» تردان أن الكل مشغول بالدراسة والعمل , ويضحك ويسأل « ما لقيش عندكم عروسة لابني عماد , هو شاب زي الفل ,تخرج من الجامعة ومش قادر يلاقي شغل ,  عايز يتزوج علشان يجي استراليا, ما تفرقش اذا كانت مصرية أو أي بلد عربي تاني , المهم تكون معاها الجنسية الاسترالية علشان تساعده على الهجرة من مصر».