فاطمة مارديني
وقفت الأم مكبلة اليدين لا تستطيع الحراك , المعلمة الاسترالية تحاول بلطف أن تقنع ميرنا ذات السنوات الست أن تدخل الى الصف , ولكن كل محاولاتها تبوء بالفشل , تعتقد لوهلة أولى انه بسبب وجودها في محيط جديد , محاطة بأولاد لا يشبهونها ولايتكلمون لغتها , فهي في نيوكاسل منذ ثلاثة أشهر فقط, تستعين المعلمة بأحد أولياء الأمور الذي يتكلم العربية ليترجم للفتاة ما تقول , لا استجابة من الفتاة كأنها في عالم آخر , عيناها في الارض وتطلب من أمها دامعة العينين أن لا تتركها لوحدها « تتذكرين ايش حصل في مدرستنا , عندما قصفوها بالقذائف وخفنا كتير وركضت مع بابا لتاخدونا , وقعدنا بالبيت معكم وبطلنا نروح « , تطمئن الأم الفتاة بأنها هنا في نيوكاسل وانها بعيدة جدا عن سورية ولن تسمع صوت القذائف مرة ثانية..
تفصح سناء بحزن للمعلمة انهم مسيحيون من العراق هربوا من بغداد الى دمشق هربا التفجيرات الارهابية التي كانت تتعرض لها العاصمة العراقية بعد سقوط نظام صدام حسين « كنا خائفين كل الوقت , التفجيرات الانتحارية تحصد يوميا عشرات الارواح في الاسواق العامة , والطرقات والمدارس , لم نعد نرسل أولادنا الى المدارس, جيل كامل من العراقيين لم يتعلم , هذا ما حملته الديموقراطية الاميركية لنا !».
تستجيب المعلمة أخيرا لطلب سناء بأن تداوم مع ابنتها في المدرسة في الاسبوع الأول حتى تعتاد ميرنا على المدرسة ويزول خوفها , تعرف الأم في قرارة نفسها أن الموضوع أعمق من ذلك , فميرنا في البيت تلاحقها كظلها , بالرغم من وجود الاب حنا واختها ساندي في البيت فهي خائفة كل الوقت وقلقة , حتى في الليل تستيقظ من نومها خائفة وبعض الاحيان تصرخ وتقول» ماما ليش بدهم يقتلونا ,ليش عم يقتلوا الاولاد ؟» طبعا لن يقنع جواب سناء المعتاد ابنتها انها هنا آمنة في نيوكاسل ولن يقصفها أحد , وأن منطقة المرجة في دمشق هي خلف المحيطات .
تقترح المعلمة بلطف على سناء أن تعرض ابنتها على المستشار النفساني ليقيم حالتها , قد تكون ميرنا تعاني من «صدمة ما بعد الحروب «, وهذا شيء طبيعي للاجئين الذين يصلون استراليا من بلاد عانت الحروب , كيف بطفلة بعمر ميرنا شهدت حربين مروعتين, ترد الأم باكية دعيني أفكر في الموضوع !
تتذكر سناء المدن التي مرت بها قبل وصولها الى استراليا , فمن عمان الى دمشق التي أمضت فيها ثلاث سنوات الى نيوكاسل الكثير من الترحال والقليل من الفرح , أهلها توزعوا على أرجاء المعمورة , والديها في كندا عند أختها المهاجرة منذ حرب الخليج الاولى , أخوها وزوجته في السويد , اختها الأرملة في سن الفيل في لبنان مع ابنتيها الشابتين التي خافت عليهما من الخطف والاغتصاب بعد استيلاء داعش على الموصل ,بانتظار جواب الامم المتحدة على طلب اللجوء الى كندا .
بالرغم من وجود سناء مع زوجها وابنتيها بعيدا عن عائلتيهما في بلد لا يتكلمون لغته وفي مجتمع لا يعرفون عاداته وتقاليديه بعيدة عن أهلها , لكن على الاقل ينامون آمنين ولا يسمعون صوت الصواريخ , ومحاطين برعاية انسانية افتقدوها في بلاد التشرد !