بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين
أمَا بعد: فليعلم المقاتلون الأعزَّة الذين وفّقهم الله عزّ وجلّ للحضور في ساحات الجهاد وجبهات القتال مع المعتدين
1)    أنّ الله سبحانه وتعالى – كما ندب الى الجهاد ودعا إليه وجعله دعامةً من دعائم الدين وفضّل المجاهدين على القاعدين – فإنّه عزّ اسمه جعل له حدوداً وآداباً أوجبتها الحكمة واقتضتها الفطرة، يلزم تفقهها ومراعاتها، فمن رعاها حق رعايتها أوجب له ما قدّره من فضله وسنّه من بركاته، ومن أخلّ بها أحبط من أجره ولم يبلغ به أمله.
2)    فللجهاد آدابٌ عامة لابد من مراعاتها حتى مع غير المسلمين، وقد كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) يوصي بها أصحابه قبل أن يبعثهم الى القتال، فقد صحّ عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (كان رسول الله – صلى الله عليه وآله – إذا أراد أن يبعث بسرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول سيروا باسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) : لا تغلوا، لا تمثلوا، ولا تغدروا، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة، ولا تقطعوا شجراً إلا أن تضطروا إليها).
3)    كما أنّ للقتال مع البغاة والمحاربين من المسلمين واضرابهم أخلاقاً وآداباً أُثرت عن الإمام علي (عليه السلام) في مثل هذه المواقف، مما جرت عليه سيرته وأوصى به أصحابه في خطبه وأقواله، وقد أجمعت الأمة على الأخذ بها وجعلتها حجّة فيما بينها وبين ربّها، فعليكم بالتأسي به والأخذ بمنهجه، وقد قال (عليه السلام) في بعض كلامه مؤكداً لما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) – في حديث الثقلين والغدير وغيرهما -: (انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم واتبعوا اثرهم، فلن يخرجوكم من هدى ولن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، وان نهضوا فانهضوا، ولا تسبقوهم فتضلوا ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا.
4)    فالله الله في النفوس، فلا يُستحلّن التعرض لها بغير ما أحلّه الله تعالى في حال من الأحوال، فما أعظم الخطيئة في قتل النفوس البريئة وما أعظم الحسنة بوقايتها واحيائها، كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه، وان لقتل النفس البريئة أثاراً خطيرة في هذه الحياة وما بعدها، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) شدة احتياطه في حروبه في هذا الأمر، وقد قال في عهده لمالك الأشتر – وقد عُلِمت مكانته عنده ومنزلته لديه – (إياك والدماء وسفكها بغير حلّها فانه ليس شيء ادعى لنقمة واعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقَّها والله سبحانه مبتدأ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فإن ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد لان فيه قود البدن).
فإن وجدتم حالة مشتبهة تخشون فيها المكيدة بكم، فقدّموا التحذير بالقول او بالرمي الذي لا يصيب الهدف أو لا يؤدي الى الهلاك، معذرةً الى ربّكم واحتياطاً على النفوس البريئة.
5)    الله الله في حرمات عامة الناس ممن لم يقاتلوكم، لا سيّما المستضعفين من الشيوخ والولدان والنساء، حتى إذا كانوا من ذوي المقاتلين لكم، فإنه لا تحل حرمات من قاتلوا غير ما كان معهم من أموالهم. وقد كان من سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) انه كان ينهي عن التعرض لبيوت اهل حربه ونسائهم وذراريهم رغم إصرار بعض من كان معه – خاصة من الخوارج – على استباحتها وكان يقول: (حارَبنا الرجال فحاربناهم، فأمّا النساء والذراري فلا سبيل لنا عليهم لأنهن مسلمات وفي دار هجرة، فليس لكم عليهن سبيل، فأمّا ما اجلبوا عليكم واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله تعالى لذراريهم، وليس لكم عليهن ولا الذراري من سبيل).
6)    الله الله في اتهام الناس في دينهم نكاية بهم واستباحةً لحرماتهم، كما وقع فيه الخوارج في العصر الاول وتبعه في هذا العصر قوم من غير اهل الفقة في الدين، تأثراً بمزاجياتهم واهوانهم وبرروه ببعض النصوص التي تشابهت عليهم فعظم ابتلاء المسلمين بهم.
واعلموا ان من من شهد الشهادتين كان مسلماً يعصم دمه وماله وان وقع في بعض الضلالة وارتكب بعض البدعة، فما كل ضلالة بالتي توجب الكفر، ولا كل بدعة تؤدي الى نفي صفة الاسلام عن صاحبها، وربما استوجب المرء القتل بفساد او قصاص وكان مسلماً.
وقد قال الله سبحانه مخاطباً المجاهدين: (يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبيّنوا، ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا). واستقاضت الآثار عن أمير المؤمنين (عليه السلام) نهيه عن تكفير عامّة اهل حربه – كما كان يميل اليه طلائع الخوارج في معسكره – بل كان يقول انهم قوم وقعوا في الشبهة، وان لم يبرر ذلك صنيعهم ولم يصح عذراً لهم في قبيح فعالهم، ففي الأثر المعتبر عن الامام الصادق عن ابيه (عليهما السلام): (أنّ علياً (عليه السلام) لم يكن ينسب أحداً من اهل حربه الى الشرك ولا الى النفاق ولكن يقول: هم اخواننا بغوا علينا)، ( وكان يقول لأهل حربه: إنا نقاتلهم على التكفير لهم ولم نقاتلهم على التكفير لنا).
7)    وإياكم والتعرض لغير المسلمين أيّاً كان دينه ومذهبه فإنهم في كنف المسلمين وأمانهم، فمن تعرض لحرماتهم كان خائناً غادراً، وان الخيانة والغدر لهي أقبح الأفعال في قضاء الفطرة ودين الله سبحانه، وقد قال عزّ وجلّ في كتابه عن غير المسلمين (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبرّوهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين). بل لا ينبغي ان يسمح المسلم بانتهاك حرمات غير المسلمين ممن هم في رعاية المسلمين، بل عليه ان تكون له من الغيرة عليهم مثل ما يكون له على أهله، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) انه بعث معاوية (سفيان بن عوف من بني غامد) لشن الغارات على أطراف العراق – تهويلاً على أهله – فأصاب أهل الأنبار من المسلمين وغيرهم، اغتنم امير المؤمنين (عليه السلام) من ذلك غمّا شديداً، وقال في خطبةٍ له: (وهذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار وقد قتل حسان بن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها، ولقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقُلَبها، ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال (3) وقلائدها ورعاثها (2) رجلاً منهم كلم، ولا أريق لهم دم، فلو ان امراً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً).
8)    الله الله في اموال الناس، فإنه لا يحل مال امرئ مسلم لغيره إلا بطيب نفسه، فمن استولى على مال غيره غصباً فإنما حاز قطعة من قطع النيران، وقد قال الله سبحانه: (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً). وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: (من اقتطع مال مؤمن غصباً بغير حقه لم يزل الله معرضاً عنه لأعماله التي يعملها. من البر والخير لا يثبتها في حسناته حتى يتوب ويرد المال الذي أخذه الى صاحبه). وجاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) انه نهى ان يستحل من اموال من حاربه الا ما وجد معهم وفي عسكرهم، ومن اقام الحجة على ان ما وجد معهم فهو من ماله أعطى المال إياه، ففي الحديث عن مروان بن الحكم قال: (لما هزمنا عليٌ بالبصرة ردّ على الناس اموالهم من أقام بيّنة أعطاه ومن لم يقم بيّنة احلفه).
9)    الله الله في الحرمات كلها، فاياكم والتعرض لها او انتهاك شيء منها بلسان او يد، واحذروا أخذ امرئ بذنب غيره، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، ولا تأخذوا بالظنّة ولا تشبهوه على انفسكم بالحزم، فإن الحزم احتياط المرء في أمره، والظنة اعتداء على الغير بغير حجة، ولا يحملنكم بغض من تكرهونه على تجاوز حرماته كما قال الله سبحانه: (ولا يجر منكم شنآن قومٍ على ان لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى).
وقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) انه قال في خطبة له في وقعة صفّين في جملة وصاياه: (ولا تمثّلوا بقتيل، وإذا وصلتم الى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً من اموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة بأذىً وان شتمن اعراضكم وسبين أمراءكم وصلحاءكم)، وقد ورد انه (عليه السلام) في حرب الجمل – وقد انتهت – وصل الى دار عظيمة فاستفتح ففُتحت له، فإذا هو بنساءٍ يبكين بفناء الدار، فلمّا نظرن إليه صحن صيحة واحدة وقلن هذا قاتل الأحبّة، فلم يقل شيئاً، وقال بعد ذلك لبعض من كان معه مشيراً الى حجرات كان فيها بعض رؤوس من حاربه وحرّض عليه كمروان بن الحكم وعبد الله بين الزبير: (لو قتلت الأحبة لقتلت من في هذه الحجرة).
كما ورد انه (عليه السلام) قال في كلامه له وقد سمع قوماً من اصحابه كحجر بن عدي وعمرو بن الحمق يسبّون اهل الشام أيام حربهم بصفين: (اني اكره لكم ان تكونوا سبّابين ولكنكم لو وصفتم اعمالهم وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم (اللهم احقن دماءنا ودمائهم، واصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق من جهله ويرعون عن الغي والعدوان من لهج به) فقالوا له يا أمير المؤمنين: نقبل عظتك ونتأدب بأدبك.
10)    ولا تمنعوا قوماً من حقوقهم وان ابغضوكم ما لم يقاتلوكم، وقد جاء في سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) انه جعل لأهل الخلاف عليه ما لسائر المسلمين ما لم يحاربوه، ولم يبدأهم بالحرب حتى يكونوا هم المبتدئين بالإعتداء، فمن ذلك انه كان يخطب ذات مرة بالكوفة فقام بعض الخوارج واكثروا عليه بقولهم (لا حكم إلا لله) فقال: (كلمة حق يراد بها باطل، لكم عندنا ثلاث خصال: لا نمنعكم مساجد الله ان تصلوا فيها، ولا نمنعكم الفيء ما كانت ايديكم مع ايدينا، ولا نبدأكم بحربٍ حتى تبدؤونا به).
11)    واعلموا ان اكثر من يقاتلكم انما وقع في الشبهة بتضليل آخرين، فلا تعينوا بحسن تصرفكم ونصكم واخذكم بالعدل والصفح في موضعه، وتجنب الظلم والإساءة والعدوان، فان من دار شبهة عن ذهن امرئ فكأنه أحياه، ومن أوقع امرئ فس شبهة من غير عذر فكأنه قتله.
ولقد كان من سيرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عنايتهم برفع الشبهة عمن يقاتلهم، حتى إذا لم ترج الاستجابة منهم، معذرة منهم الى الله، وتربية للأمة ورعاية لعواقب الأمور، ودفعاً للضغائن لا سيّما من الأجيال اللاحقة، وقد جاء في بعض الحديث من الصادق (عليه السلام) أن الامام عليّاٌ (عليه السلام) في يوم البصرة لما صلا الخيول قال لأصحابه: (لا تعجلوا على القوم حتى اعذر فيما بيني وبين الله وبينهم، فقام اليهم، فقال: يا أهل البصرة هل تجدون عليّ جورة في الحكم؟ قالوا: لا، قال: فحيفاً في قسم؟ قالوا: لا قال: فرغبة في دنيا اصبتها لي ولأهل بيتي دونكم فنقمتم عليّ فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فاقمت فيكم الحدود وعطّلتها عن غيركم؟ قالوا: لا). وعلى مثل ذلك جرى الامام الحسين (عليه السلام) في وقعة كربلاء، فكان معنيّاً بتوضيح الأمور  ورفع الشبهات حتى يحيا من حيّ من بينّة ويهلك من هلك عن بيّنة، بل لا تجوز محاربة قوم في الإسلام أيّاً كانوا من دون إتمام الحجّة عليهم ورفع شبهة التعسّف والحيف بما امكن من أذهانهم كما أكدت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
12)    ولا يظنّن أحدّ ان في الجور علاجاً لما لا يتعالج بالعدل، فإنّ ذلك ينشأ عن ملاحظة بعض الوقائع بنظرة عاجلة إليها من غير انتباه الى عواقب الأمور ونتائجها في المدى المتوسط والبعيد، ولا إطلاع على سنن الحياة وتاريخ الأمم، حيث ينبّه ذلك على عظيم ما يخلفه الظلم من شحن للنفوس ومشاعر العداء مما يهد المجتمع هدّاً، وقد ورد في الأثر: (ان من ضاق به العدل فإن الظلم به أضيق)، وفي احداث التاريخ المعاصر عبرةٌ للمتأمل فيها، حيث نهج بعض الحكام ظلم الناس تثبيتاً لدعائم ملكهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس، فأتاهم الله سبحانه من حيث لم يحتسبوا حتى كأنهم أزالوا ملكهم، واضطهدوا مئات الآلاف من الناس، فأتاهم الله سبحانه من حيث لم يحتسبوا حتى كأنهم أزالوا ملكهم بأيديهم.
13)    ولئن كان في بعض التثبّت وضبط النفس وإتمام الحجّة – رعاية للموازين والقيم النبيلة – بعض الخسارة العاجلة احياناً فإنه اكثر بركة وأحمد عاقبة وأرجى نتاجاً، وفي سيرة الأنمة من آل البيت (عليهم السلام) أمثلة كثيرة من هذا المعنى، حتى انهم كانوا لا يبدأون أهل حربهم بالقتال حتى يبدأوا هم بالقتال وان أصابوا بعض اصحابهم، ففي الحديث انه لما كان يوم الجمل وبرز الناس بعضهم لبعض نادى منادى أمير المؤمنين (عليه السلام): (لا يبدأ أحدّ منكم بقتال حتى آمركم)، قال بعض اصحابه: فرموا فينا، فقلنا يا أمير المؤمنين: قد رُمينا، فقال: (كفّوا)، ثم رمونا فقتلوا منّا، قلنا يا أمير المؤمنين: قد قتلونا، فقال: (احملوا على بركة الله)، وكذلك فعل الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء.
14)    وكونوا لمن قبلكم من الناس حماة ناصحين حتى يأمنوا جانبكم ويعينوكم على عدوكم، بل اعينوا ضعفاءهم ما استطعتم، فانهم إخوانكم واهاليكم، واشفقوا عليهم فيما تشفقون في مثله على ذويكم، واعملوا انكم بعين الله سبحانه، يحصي أفعالكم ويعلم نياتكم ويختبر أحوالكم.
15)    ولا يفوتنكم الاهتمام بصلواتكم المفروضة، فما وفد امرئٌ على الله سبحانه بعمل يكون خيراً من الصلاة، وان الصلاة لهي الأدب الذي يتأدب الانسان مع خالقه والتحية التي يؤديها تجاهه، وهي دعامة الدين ومناط قبول الاعمال، وقد خففها الله سبحانه بحسب مقتضيات الخوف والقتال، حتى قد يكتفي في حال الانشغال في طول الوقت بالقتال بالتكبيرة عن كل ركعة ولو لم يكن المرء مستقبلاً للقبلة كما قال عزّ من قائل: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً، فإذا أمنتم فاذكروا الله كما كما علّمكم ما لم تكونوا نعلمون).
على انه سبحانه وتعالى أمر المؤمنين بان يأخذوا حذرهم واسلحتهم ولا يجتمعوا للصلاة جميعاً بل يتناوبوا فيها حيطة لهم. وقد ورد في سيرة أمير المؤمنين وصيته بالصلاة لأصحابه، وفي الخبر المعتبر عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال في صلاة الخوف عند المطاردة والمناوشة: (يصلي كل انسان منهم بالإيماء حيث كان وجهه وان كانت المسايفة والمعانقة وتلاحم القتال، فان امير المؤمنين (عليه السلام) صلى ليلة صفّين – وهي ليلة الهرير – لم تكن صلاتهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء – عند وقت كل صلاة – غلا التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد والدعاء، فكانت تلك صلاتهم، لم يأمرهم بإعادة الصلاة).
16)    واستعينوا على انفسكم بكثرة ذكر الله سبحانه وتلاوة كتابه واذكروا لقاءكم به ومنقلبكم اليه، كما كان عليه امير المؤمنين (عليه السلام)، وقد ورد انه بلغ من محافظته على ورده انه يُبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته.
17)    واحرصوا اعانكم الله على ان تعملوا بخلق النبي واهل بيته (صلوات الله عليهم) مع الآخرين في الحرب والسلم جميعاً، حتى تكونوا للإسلام زيناً ولقيّمه مثلاً، فان هذا الدين بُنِيَ على ضياء الفطرة وشهادة العقل ورجاحة الأخلاق، ويكفي منبّهاً على ذلك انه رفع راية التعقل والأخلاق الفاضلة، فهو يرتكز في أصوله على الدعوة الى التأمل والتفكير في ابعاد هذه الحياة وآفاقها ثم الاعتبار بها والعمل بموجبها كما يرتكز في نظامه التشريعي على إثارة دفائن العقول وقواعد الفطرة، قال الله تعالىك (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) وقال امير المؤمنين (ع): (فبعث – الله – فيهم رسالة وواتر انبياءه اليهم ليستأدوا ميثاق فطرته ويذكرهم منسيّ نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول)، ولو تفقّه اهل الاسلام وعملوا بتعاليمه لظهرت لهم البركات وعمّ ضياؤها في الآفاق، واياكم والتشبث ببعض ما تشابه من الاحداث والنصوص فإنّها لو ردت الى الذين يستنبطونه من أهل العلم – كما أمر الله سبحانه – لعاموا سبيلها ومغزاها.
18)    واياكم والتسرع في مواقع الحذر فتلقوا بأنفسهم الى التهلكة، فان اكثر ما يراهن عليه عدوّكم هو استرسالكم في مواقع الحذر بغير تروٍّ واندفاعكم من غير تحوط ومهنية، واهتموا  بتنظيم صفوفكم والتنسيق بين خطواتكم ، ولا تتعجلوا في خطوة قبل انضاجها واحكامها وتوفير ادواتها ومقتضياتها وضمان الثبات عليها بنتائجها، قال سبحانه: (يا ايها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعاً)، وقال تعالى: (ان الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص)، وكونوا اشداء فوق ما تجدونه من اعدائكم فانكم اولى بالحق منهم، وان تكونوا تألمون فانهم يأملون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون، اللهم إلا رجاء مدخولاً واماني كاذبة وأوهاماً زائفة كسراب بقيعة يحسبه الظمأن ماءً، حجبتهم الشبهات بظلمانها وعميت بصائرهم بأوهامها.
19)    هذا وينبغي لمن قبلكم من الناس ممن يتترس بهم عدوكم ان يكونوا ناصحين لحماتهم يقدرون تضحياتهم ويبعدون الأذى عنهم ولا يثيرون الظنة بأنفسهم، فان الله سبحانه لم يجعل لأحد على آخر حقاً إلا وجعل لذلك عليه حقاً مثله، فلكل مثل ما عليه بالمعروف.
واعلموا انكم لا تجدون انصح من بعضكم لبعض اذا تصافيتم واجتمعتم فيما بينكم بالمعروف حتى وان اقتضى الصفح والتجاوز عن بعض الاخطاء بل الخطايا وان كانت جليلة، فمن ظنّ غريباً انصح له من اهله وعشيرته واهل بلده ووالاه من دونهم فقد توهّم، ومن جرّب من الأمور ما جُرّبت من قبل أوجبت له الندامة. وليعلم ان البادئ بالصفح له من الاجر مع اجر صفحة أجر كل ما يتبعه من صفح وخير سداد، ولن يضيع ذلك عند الله سبحانه، بل يوفيه إياه عند الحاجة إليه في ظلمات البرزخ وعرصات القيامة. ومن أعان حامياً من حماة المسلمين أو خلفه في أهله وأعانه على أمر عائلته كان له من الأجر مثل أجر من جاهد.
20)    وعلى الجميع ان يدعوا العصبيات الذميمة ويتمسكوا بمكارم الأخلاق، فإن الله جعل الناس أقواماً وشعوباً ليتعارفوا ويتبادلوا المنافع ويكون بعضهم عوناً للبعض الآخر، فلا تغلبنكم الأفكار الضيقة والانانيات الشخصية، وقد علمتم ما حلّ بكم وبعامّة المسلمين في سائر بلادهم حتى أصبحت طاقاتهم وقواهم واموالهم وثرواتهم تُهدر في ضرب بعضهم لبعض، بدلاً من استثمارها في مجال تطوير العلوم واستنماء النعم وصلاح أحوال الناس. فاتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة، أما وقد وقعت الفتنة فحاولوا إطفاءها وتجنّبوا إذكاءها واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا، واعلموا ان الله ان يعلم في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم، ان الله على كل شيء قدير.

مسجد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام