من يعرف فاروق الشرع، يُدرك أنه دقيق في كل تفصيل. رجل قليل الكلام. يقلب كل كلمة يميناً ويساراً. يمررها ببطء شديد في عقله قبل أن يلفظها. يختار كلماته وتحركاته بعد حسابات عميقة. مأخوذ بالتاريخ. يتجرأ على الكلام ولا يخاف من الصمت. هذا طبعه، وتعزز ذلك بحكم عمله حوالى ربع قرن في الشؤون الخارجية في حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد. شهد ونفذ من موقعه، سياسة تجاوز الرياح الهائجة من انهيار الاتحاد السوفياتي إلى ركوب أمواج تحديات عملية السلام و «عالم القطب الواحد». يتابع الشأن الداخلي، لكن لا يسهب علناً فيه. موضوعه الأسير هو التوازن. قوة سورية في الإقليم ينبع من الجغرافيا السياسية. إنها نقطة التقاء بين إيران والخليج بين تركيا والخليج، أيضاً تطل على القضية الفلسطينية من الجولان. قوتها في التوازن بين علاقات استراتيجية مع إيران الخمينية والفصائل الفلسطينية من جهة والاعتدال العربي ومفاوضات السلام وإمكانات تحسين العلاقات مع أميركا من جهة ثانية. كانت مذكرات الشرع جاهزة قبل عام 2011، لكنه اختار صدورها الآن. اختار لحظتي البداية والنهاية. منذ الطفولة إلى وفاة الأسد في حزيران (يونيو) 2000. وما إن صدر كتابه «الرواية المفقودة» (منشورات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، حتى انتقده بعض المسؤولين السوريين واتهموه بالمبالغه في دوره وقالوا أن «سطحيته» ظهرت عندما «غاب نبع الماء» في إشارة إلى الأسد. وأضافوا: «مع ذلك تحمَّله نبع الماء الثاني، عقداً ثالثاً من الزّمن، علّه يتعلّم مجدداً، ما عجز عن تعلمه في الماضي. لكن من دون جدوى، ويبقى التاريخ المقبل، الحكم العادل». يضم الكتاب 448 صفحة في 19 فصلاً. حاول أن يقدم فيه «الرواية المفقودة» للمفاوضات مع إسرائيل من التحضير لمؤتمر مدريد الذي عقد في 30 تشرين الأول (أكتوبر) 1991، وانتهاء بقمة جنيف بين الأسد وكلينتون في 26 آذار (مارس) 2000، مروراً بقصة «وديعة» رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين. يقدم الشرع الرواية الرسمية الثانية لمفاوضات السلام، لكنها الأكثر تفصيلاً وسرداً، بعد كتاب «مفكرة دمشق» لبثينة شعبان. وكان معظم المسؤولين الأميركيين قدموا أطروحاتهم، إذ تطرق الرئيس بيل كلينتون إليها في كتابه «حياتي»، وكذلك فعلت وزيرة خارجيته مادلين أولبرات في «السيدة الوزيرة»، في حين دخل مسؤول ملف المفاوضات دنيس روس في التفاصيل في «الفرص الضائعة»، أضاف إليها سلفه مارتن أنديك في «أبرياء في الخارج: رواية شخصية لديبلوماسية السلام الأميركية». أما الإسرائيليون فكانوا سباقين في تقديم نظرتهم كما فعل رئيس الوفد التفاوضي السابق السفير إيتامار رابينوفيتش. رصاص على أهل درعا يسرد الشرع طفولته وشبابه وتنقله «بين نكبتي» 1948 و1967 متنقلاً في الجغرافيا والديموغرافيا السورية بين محردة وسط البلاد والغوطة الشرقية ومسقط رأسه في درعا. وتناول الانقلابات العسكرية التي «عززت مكانة العسكر في السياسة»، غير أنه يقول أن مفهوم «الانقلاب» وقتذاك كان بمثابة «الثورة» حالياً، ويبوح: «كلما استرجع الجدل الذي كان يحتدم عند كل منعطف وطني صعب، أسترجع صورة أهل درعا يوم الانفصال وهم يخرجون إلى الشوارع بالآلاف ساخطين على الانفصال (بين سورية ومصر في 1961) والرصاص ينهمر عليهم من أجهزة الأمن ذاتها التي كانت تتعقبهم وتطاردهم أيام الوحدة. كنت أتساءل: إذا عادوني هذا المشهد، فمتى ستصبح الأمور ويصبح الشعب كله في موقع واحد مع الجيش العقائدي في مواجهة العدو الإسرائيلي» ( ص 31). يؤنسن «أبو مضر» الشخص الذي عين سفيراً، ثم وزيراً للخارجية وانتهاء بمنصب نائب رئيس: «لم أجهش بالبكاء إلا عندما رأيتهم يهيلون التراب عليه (أبي) ويقرأون الفاتحة. ظللت أشهراً عدة أراه في نومي يأتي صوبي كالملاك مجللاً بالبياض، ثم يضيع خلف السور تحت التراب». ودفن والده في درعا التي شهدت شرارة احتجاجات 2011. عمل الشرع في «البنك العربي» و»مؤسسة الطيران» ما فتح علاقة مع الأسد بحكم تبعتها لوزير الدفاع، حيث كان يتابع السياسة من شرفة مطار دمشق. تلك أمور شكلت، مع قراءاته الأدبية والسياسية ونشاطاته، كنزاً لدى تعيينه وزير الدولة للشؤون الخارجية عام 1980. يشير الشرع إلى خلافات بدأت مبكراً بينه وبين وزير الخارجية آنذاك عبدالحليم خدام، ويتحدث لاحقاً عن افتراق طريقيهما في اجتماع المؤتمر القومي الثالث عشر لحزب «البعث» في آب (أغسطس) 1980، ذلك أن خدام دعا إلى «السير في مواقف راديكالية جذرية ضد القوى الرجعية العربية والرد على اتفاق كامب ديفيد وقطع العلاقات مع من لا يقف مع جبهة الصمود» وسحب الموافقة على القرارين 242 و338، لافتاً إلى أنه (الشرع) حذر من ذلك لأنه «سيؤلب المجتمع الدولي». كما أشار إلى قيام «خدام بالهجوم علي» كي لا يتسلم منصب وزير الخارجية. ولا شك في أن موقف الشرع المعتدل في المؤتمر عزز من فرص تعيينه وزيراً للخارجية من الأسد بعد تسلمه الحكم، على عكس ما أراد خدام في تشدده.  «أنا والطيار المسرّح» يروي كيف تعرف إلى الأسد للمرة الأولى بعد الانفصال عن مصر عام 1961: «تعرّفت إلى الطيار المسرّح المعين في وظيفة مدنية في مديرية النقل البحري (…) أذكر أن الأسد كان قليل الكلام، لكنه لا يتوقف عن التدخين» قبل أن يتركه. ويذهب إلى ما بعد نكسة 1967، والمرحلة السابقة لـ «الحركة التصحيحية» في 1970: «في معظم الجيوش لا تحدث عادة مراجعة علنية للأخطاء التي ارتكتب لأن المراجعة في بعض الحالات قد تقود إلى نوع من الانقلاب» (ص 38). لم يشر الشرع تفصيلاً إلى موضوع إعلان سقوط القنيطرة في حرب 1967. لكن، قال أن «الأسد الذي كان وزيراً للدفاع إبان عدوان 1967 لم يكن سعيداً بما حدث على رغم استبسال بعض الوحدات العسكرية حتى الرمق الأخير عند بعض المواقع في جبهة الجولان، لكن الأسد كان يشعر بعمق الحرج وفداحة الخسارة التي لحقت بالجيش وبه شخصياً. ظهر الأسد وحيداً في رؤيته للأمور، خصوصاً عندما قررت القيادة دعم عرفات في مواجهة الملك حسين في أيلول (سبتمبر) الأسود 1970. كانت الغالبية في القيادة شديدة الحماسة والاندفاع إلى درجة أن صلاح جديد و (الرئيس) نور الدين الأتاسي وآخرين في القيادة عسكروا في درعا قريباً من الحدود الأردنية. وقرروا نتيجة استغاثة عرفات في الأردن، إدخال عربات ودروع سورية لمساعدته في مواجهة الجيش الأردني من دون خطة مسبقة، لكن اكتشفوا بعد خسارتهم بعض الدبابات السورية أنهم في حاجة إلى غطاء جوي. لم يستجب الأسد لهذا الطلب المستغرب لأنه كان يعتقد أن هذا التدخل الواسع بعواقبه العربية والدولية وفي مقدمها إسرائيل، لن يمر بسلام» (ص 39). ولا شك في أن هذا مهم، إذ إن كثيرين يعزون الموقف الغربي الإيجابي من «الحركة التصحيحية» في وقت قريب لاحق إلى «موقف المعتدل» الذي اتخذه من التدخل السوري في الأردن. أضيف إليه لاحقاً اتفاق فك الاشتباك بين سورية وإسرائيل عام 1974 ما لذلك من أهمية إقليمياً وداخلياً. ثم يتحدث لاحقاً عن «الود المفقود» بين الأسد وعرفات. وفي حزيران 1983، أُبعد «أبو عمار» بـ «نصيحة» من خدام ورئيس الأركان العامة وقتذاك حكمت الشهابي. لكن الشرع لم يتعمق في مساعي دمشق إلى «احتواء» الملف الفلسطيني الذي برز واضحاً في منتصف السبعينات في طرح الأسد في 8 آذار 1975، «إقامة وحدة» بين سورية و «منظمة التحرير الفلسطينية» بعد تأسيس فصائل فلسطينية منافسة للمنظمة منذ نهاية الستينات.  متورط وليس متآمراً يتطرق إلى الصراع بين الأسد وأخيه رفعت، الأمر الذي كان وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس تحدث عنه في كتاب تضمن اتهامات أن أميركا «حركت» رفعت. ويحكي الشرع عن «رحلة موسكو» الشهيرة ومشاهداته على متن الطائرة و «المشادات الأكثر عنفاً وصخباً بين (المسؤول العسكري) شفيق فياض ورفعت الأسد، ووصلت الأمور إلى حد إشهار السلاح» وتبادل الاتهامات بـ «عدم الوفاء» والفساد. وقال: «لم تهدأ الأمور إلا بعد أن امتلأت البطون بالطعام والشراب فاستبدلت الاتهامات وإشهار السلاح بعناق ومصافحات». ويؤكد «وقوف السوفيات مع حافظ ضد رفعت» وتوفير «مخرج آمن للشقيق الأصغر»، فيما وضع الأخ الأكبر أخاه الأصغر في «القفص المخملي» عبر تعيينه نائباً للرئيس منتصف الثمانينات لقناعة حافظ أن رفعت كان «متورطاً» وليس «متأمراً». ويشير إلى «توقيع المعاهدة السورية – السوفياتية» بعد شهر من نشوب الحرب العراقية – الإيرانية في أيلول 1980. تلك المعاهدة التي خفضت سقفها من «تعاون استراتيجي» إلى «صداقة». وقال: «أعلمني الأسد أن توقيع المعاهدة كان رداً على المتغير الجديد، لأن الحرب ستخرج العراق من الحسابات الاستراتيجية بعدما خرجت مصر من حسابات الصراع العربي – الإسرائيلي» بتوقيع اتفاق كامب ديفيد. عقدت قمة فاس الثانية في أيلول 1982 بعد فشل القمة الأولى، وكان «واضحاً» للشرع، أن انعقادها «جاء بعد الغزو الإسرائيلي لبنان في حزيران وإبعاد عرفات ومنظمة التحرير خارج لبنان ومواجهة القوات السورية الغزوَ الإسرائيلي على طريق بيروت – دمشق، أي بعدما تعرض السوريون واللبنانيون والفلسطينيون لمزيد من الضغوط الأميركية – الإسرائيلية من الساحة اللبنانية»، الأمر الذي أدى إلى بدء مفاوضات بين إسرائيل ولبنان في رعاية أميركية انتهت بتوقيع اتفاق 17 أيار (مايو) 1983، ثم الحديث عن «إفشاله».  عرض إيراني مقلق يقول الشرع أنه لم يكن من المغرمين بدور شخصي له بـ «التدخل» في لبنان ويعتقد الأمر «صداعاً في الرأس»، لكن يبوح أنه كان «مدركاً أن ترك هذا الموضوع (لبنان) لخدام واستحواذه عليه يعنيان أن الاقتتال لن يتوقف» في لبنان. ويعرج على دوره في 1987 في صوغ مسودة «الميثاق الوطني» التي ستصبح لاحقاً أساساً لاتفاق الطائف. غير أنه يسرد قصة مثيرة تتعلق بالانخراط الإيراني – السوري، إذ إنه بعد تقدم آرييل شارون إلى مشارف بيروت واتخاذه من بناية مقابل القصر الجمهوري مقراً له في حزيران 1982، «تلقى الأسد من الإمام الخميني عرضاً بإرسال مئة ألف مقاتل إلى لبنان لصد الإسرائيليين. أبدى الأسد اهتماماً بالعرض الإيراني وقلقاً في الوقت نفسه. اهتم به من زاوية إفهام الأطراف المعادية لسورية أنها ليست وحدها، وقلق لأنه يشكل إحراجاً لنا ولحلفائنا الفلسطينيين حول النقص لدينا في القدرة العددية على مواجهة العزو. لكن، نتج منه دخول أعداد صغيرة من الحرس الثوري الإيراني لدعم إخراج القوات المتعددة الجنسية من لبنان». وأضاف أنه في اللقاءات السابقة استخدم الأسد عدم قبول عرض الخميني «كي يشير إلى حدود الموقف السوري من إيران وعدم موافقتها على خلخلة النسيج اللبناني بهذه الأعداد الكبيرة من مقاتلي الحرس الثوري الذين كانوا سيأتون إلى لبنان بأكفانهم». «التوازن» في لبنان، ضرب الشرع مثالاً في دوره في حل «الصراع المحتدم» بين «حزب الله» و «حركة أمل» عبر دعوة قادتهما إلى لقاء في وزارة الخارجية في شباط (فبراير) 1984 و «دعوة ولايتي للمشاركة في الاجتماع للإفادة من تأثيره في حزب الله»، خصوصاً أن «الثقة كانت منهارة بين الطرفين». لكن، غاب عن الكتاب الغوص في دور سورية مع إيران في تهميش الحركة الوطنية في المقاومة مقابل دعم بروز «حزب الله». تم التعبير عن «التوازن» بين العلاقة مع طهران الخمينية والعالم العربي في الإقليم أيضاً. يروي أنه بعد حرب الخليج وتشكيل «إعلان دمشق» ومشاركة وزراء دول الخليج وسورية ومصر في اجتماع في آذار 1991، ثم انضمام وزراء الترويكا الأوروبية، كيف أن نائب الرئيس الإيراني حسن حبيبي ووزير الخارجية علي أكبر ولايتي «طلبا زيارة دمشق، إذ لا بد من أن يكون ذلك أثار فضول» إيران. وستبقى معادلة «إعلان دمشق» من جهة و «طهران الخمينية» سائدة في عقد التسعينات وبروز المثلث السعودي – المصري – السوري. ويذكر الشرع مثلاً (ص 381) أنه بعد الاجتماع الثلاثي في 8 حزيران 1996 والدعوة إلى لقاء قمة عربية لـ «شد براغي» العرب «كان الإيرانيون قلقين ووصل ولايتي (إلى دمشق) ووعدناه بعدم إدانة إيران في القرارات الصادرة من القمة» الأولى منذ قمة بغداد في أيار 1990. جاء كل هذا بعد طي صفحة العلاقة مع بغداد، إذ يطل على منعكسات العلاقة الإيرانية – السورية على محور بغداد – دمشق. وليس مفاجئاً أن يقول الشرع أن العلاقة بين الأسد والرئيس صدام حسين كانت مليئة بعدم الثقة والشكوك، بل والتآمر. ويكشف أن لقاء سرياً عقد بينهما لـ11 ساعة بترتيب من العاهل الأردني الملك حسين في 1986، لكن «أبو عدي» أصر في هذا اللقاء السري جداً على أن يصدر الأسد «بياناً بإدانة إيران كشرط للمصالحة، لكنّ الأسد لم يوافق، لأن البيان سيحدث ضجة من دون نتيجة عملية». وكان الأمر الإيجابي استمرار اللقاءات السرية بين الشرع ونظيره طارق عزيز في الأردن. ولتعزيز الانطباع عن سوء علاقة الأسد – صدام، يروي الخلاف الحاد بينهما في قمة الدار البيضاء في 1986، إذ إن الرئيس السوري اتهم العراقي بـ «إعادة الوضع إلى القرون الوسطى» وأنه «وجه اتهامات سوقية لإيران».