القاهرة: عبد الستار حتيتة:
«من المخجل أن ترى مجموعة من الثوار في طرابلس يرتدون الملابس بشكل، وفي مصراتة بشكل آخر.. هذه أمور صغيرة، لكن الرمزية فيها خطيرة للإنسان الذي يأتي من الخارج.. هذا مؤشر من مؤشرات قياس الاستقرار في الوطن».
هكذا يقول البروفسور محمد بالروين، من مدينة مصراتة الواقعة إلى الشرق قليلا من العاصمة الليبية طرابلس. وبالروين من الشخصيات المعتبرة في ليبيا، وهو أستاذ للعلوم السياسية والإدارة، ورئيس قسم العلوم الاجتماعية بجامعة تكساس (إي آند إم إنترناشيونال)، وعاد إلى ليبيا بعد الإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي وكان أحد المنافسين على رئاسة الحكومة العام الماضي.
وتعاني العملية السياسية في ليبيا، الممتدة على ساحل البحر المتوسط بطول نحو ألفي كيلومتر، من عراقيل وشد وجذب بين قوى عدة، لكن يبدو أن التيار الجهادي المتشدد والمسلح أيضا يحظى بسطوة ونفوذ كبيرين. ومشكلة «غياب الدولة المركزية القادرة» لا تؤرق الليبيين وحدهم، بل جيرانهم أيضا خاصة في تونس والجزائر ومصر.
أصبح الحال في الدولة التي حكمها القذافي – دون نظام محدد المعالم طيلة 42 عاما – يشبه الوقوف على براميل من البارود التي تتفجر هنا وهناك بين وقت وآخر، بينما ما زالت تتناثر على جانبي الطرق الصحراوية الألوف من صناديق الأسلحة والذخيرة التي جرى نهبها، مع أسلحة ثقيلة أخرى، من مخازن جيش القذافي منذ فبراير (شباط) عام 2011؛ أي حين لحقت بما يعرف بـ»ثورات الربيع العربي» في تونس ومصر.
وحين ترى جدرانا مهدمة بقذائف المدفعية أو جثثا مثقوبة بالرصاص ملقاة في المزارع، لا بد أن تسأل: من الجهة المنوط بها حفظ الأمن في أهم الدول الأفريقية المنتجة للنفط؟ وفي الخلفية يعيش المؤتمر الوطني العام (البرلمان) على وقع المعارك الميدانية والصراعات السياسية.. كان أبرزها إقرار قانون العزل تحت تهديد السلاح لطرد قيادات ليبرالية من العملية السياسية، من بينهم أول رئيس حكومة للثوار، الدكتور محمود جبريل، وليخلو الجو للإسلاميين؛ بمن فيهم جماعة الإخوان المسلمين والمتشددون الآخرون الذين تدور الشبهات حول ارتباط بعضهم بقيادات تابعة لتنظيم «القاعدة في شمال وغرب أفريقيا»، خاصة في الجزائر ومالي.
يقول محمد بن سعيد، أحد مسؤولي الأمن في العاصمة الليبية، لـ»الشرق الأوسط» عبر الهاتف، إن حادثة خطف رئيس الحكومة الدكتور علي زيدان يوم الخميس الماضي مجرد «حادث بسيط، مقارنة بالرعب الذي يعيش فيه غالبية الليبيين على أيدي جماعات مسلحة لا تعرف لها أولا من آخر، ولا اتجاها ولا طريقة، خاصة الرعب في قطاعات من الشرائح الوسطى للموظفين التنفيذيين، وأخص منهم الموظفين في الأمن والجيش».
ويشير بن سعيد إلى أنه ليس هناك تفسير لإحجام شهود العيان، الذين كانوا يطلون من الشرفات المجاورة، عن تصوير قافلة السيارات المدججة بالأسلحة التي خطفت زيدان من فندق «كورنثيا» بالعاصمة، إلا أن كلا منهم كان يخشى أن يكون هدفا للقتل من جانب المسلحين، لأنه ببساطة «لا توجد جهة مسؤولة يعول عليها في طول البلاد وعرضها».
وتزايد نفوذ «الثوار» من خلال ما جرى تشكيله مع بدء الانتفاضة ضد القذافي، من كتائب وميليشيات، واستفحل الأمر بعد مقتل القذافي وتولي الحكام الجدد السلطة، بظهور المئات من الكتائب العسكرية الخاصة والميليشيات التي حولت «العمل الثوري» إلى وظيفة للكسب وفرض السطوة وتأمين فرق قبلية ومذهبية وسياسية على حساب فرق أخرى، وفقا لما أجاب به أحد ضباط الاستخبارات الليبية في عهد القذافي، مشيرا إلى أن الأوضاع كلها أصبحت تنذر بمزيد من التعقيدات بعد أن دخلت قوات أميركية واعتقلت عضو تنظيم القاعدة، أبو أنس الليبي، من طرابلس، وهو المتهم بالاشتراك في تفجيرات ضد مصالح للولايات المتحدة في أفريقيا في تسعينات القرن الماضي.
ومما يدلل على «هشاشة الدولة الليبية حاليا»، ترك هذا الضابط الذي انشق وعمل مع الثوار والحكام الجدد حتى مطلع العام الحالي، ليبيا.. واختار العيش في إحدى العواصم العربية، طلبا للسلامة، مشيرا إلى أن العشرات من المسؤولين، وغالبيتهم في المواقع الوسطى، استقالوا من أعمالهم طوعا وغادروا البلاد بعد أن يئسوا من بناء «دولة العدل والقانون والديمقراطية» التي كانوا يحلمون بها.
وما زالت النعرات القبلية تسيطر على كثير من القادة الجدد. وأبناء المقارحة والورفلة، على سبيل المثال، جرى إقصاؤهم عن العملية السياسية بحجة موالاتهم للنظام السابق، بينما تدفع بعض القبائل الأخرى ثمن حيادها أثناء الانتفاضة ضد القذافي. وحتى القبائل المهمشة لديها مناطق نفوذ وتدافع عن نفسها بالسلاح، ولديها، مثل الكتائب، من الكلاشنيكوف للصاروخ.
ولم تتوقف عمليات القتل والتفجير التي استهدفت شخصيات محلية وأجنبية، ومواقع أمنية ودبلوماسية. ومنذ الهجوم على القنصلية الأميركية في بنغازي وقتل السفير الأميركي وثلاثة من مساعديه الخريف الماضي، كان البعض يعتقد أن العنف يتركز فقط في بنغازي التي انطلقت منها شرارا «الثورة» ضد القذافي، لكن دائرة العنف اتسعت وطالت طرابلس، ومدنا أخرى، وهذا مما أصبح معلوما بسبب تركيز وسائل الإعلام على هذا النوع من الحوادث. أما عن وقائع قطع الطرق والقتل والاعتقال وإطلاق النار والانتقام، التي تقوم بها ميليشيات مسلحة يوميا ضد منتسبين للقوات الأمنية والجيش، وضد مسؤولين سابقين ومواطنين عاديين، فحدث ولا حرج.
ومن بين من عملوا وخدموا الثورة ضد القذافي، ثم فروا من البلاد في الأشهر الأخيرة هربا من سطوة المسلحين وأعمال التصفية والقتل، مسؤول محلي من جنوب طرابلس، اختار الإقامة خارج البلاد، يدعى حسين، وقال إنه شارك في مداخلة على إحدى قنوات التلفزيون الليبي بشأن الحاجة إلى دمج الثوار في مؤسستي الجيش والداخلية، فتلقى في اليوم التالي رسالة تتوعده بالتصفية الجسدية. ويقول: «لو لم يقم هؤلاء، من قبل، بتنفيذ تهديداتهم ضد زملاء لي في بنغازي وطرابلس، ما خشيت منهم.. لكن الأمر جدي وخطير، ومن يفترض أنه يحميك يمكن أن يدل المسلحين على تحركاتك».
وفي ظل دولة غير قادرة على بسط نفوذها على الجميع، أصبحت المشكلة الليبية تشغل بال العديد من الخبراء والمتخصصين في العالم، خاصة العالم الغربي وأوروبا التي تطل على ليبيا من جهة الشمال. وينظر عدد من الأساتذة الغربيين لانتشار السلاح في ليبيا باعتباره المحرك الرئيس للقلاقل. ويقول وزير الثقافة الليبي السابق عطية الأوجلي لـ»الشرق الأوسط» إنه كان في زيارة لبريطانيا لحضور نشاط ثقافي، واغتنم فرصة وجوده هناك للحديث مع عدد من أساتذة الجامعات الغربيين المختصين في شؤون المنطقة للتعرف على وجهات نظرهم، وإن من استمع إليهم هناك يرون أن «العنف في ليبيا سببه انتشار السلاح وغياب أجهزة الأمن وضعف الحكومة المركزية»، وإن علاجه «في بناء قوة أمنية قادرة، وهذا لا يزال بمقدور الشعب الليبي القيام به خصوصا مع توفر القدرات المالية والعون الدولي».
وفي بلاد صحراوية مفتوحة الآفاق يبدو الخيال خصبا ونسج الحكايات سهلا، لكن على أرض الواقع تجد كل طرف يصم الآخر بالفشل. إلا أنه، إجمالا، توجد حالة عامة في الشارع تستشعر غياب القادة الذين يمكن أن ينهضوا بالمسؤولية تجاه دولة كبيرة المساحة وقليلة السكان (نحو 7 ملايين نسمة)، وغنية بالنفط، ويتطلع أبناؤها إلى مستقبل آمن.
ومن شرق البلاد التي كانت أول من انتفض ضد ديكتاتورية القذافي، يلخص الأديب والإعلامي الليبي، عوض الشاعري، المشهد السياسي، قائلا إنه أصبح عرضة لتنازع أطراف محلية عدة «يغلب عليها عدم النضوج والوعي باستحقاقات المرحلة.. فمن جهة، ثمة مؤتمر وطني عام تكون على عجل لا يدرك أعضاؤه أبجديات العمل البرلماني التشريعي، وأخفقوا في حل أي من القضايا الملحة».
ولا يتعلق الأمر بضعف البرلمان فقط، هناك الحكومة أيضا التي تبدو غير متجانسة؛ بل، كما يقول بعض الليبيين، أصبحت عرجاء، بعد إقصاء حليفها المخضرم، جبريل، عن العمل السياسي.
ويضيف الشاعري أن الحكومة الانتقالية تبدو «غير متجانسة، ويثار حولها وحول أعضائها اللغط باستمرار، وعدم قدرتهم على الخروج من عنق الزجاجة، وتشكيل جيش وطني وجهاز شرطة يستطيع ضبط الأمن وتوفير الحماية، حتى لرئيس الحكومة التي تدار من داخل فندق، وكذلك في ظل انتشار الجماعات والميليشيات المسلحة التي تشكل عبئا وسببا مباشرا في فشل الحكومة وأجهزتها في أداء دورها».
ويعدد الشاعري العراقيل التي تواجه ليبيا، ومن بين هذه العراقيل، التلويح بإعلان الفيدرالية في إقليم برقة الغني بالنفط (شرقا)، وتدخل بعض اللاعبين الدوليين في الشأن الداخلي، ونشاط تنظيم القاعدة والتكفيريين والاغتيالات، ووجود عدة مدن ومناطق ما زالت تشكل بؤرا حساسة قابلة للاشتعال، وتحالفات قبلية غير واضحة.
ومع ذلك يظل السؤال: «من يحكم ليبيا؟» دون إجابة سهلة، ويتطلب الأمر معرفة الخارطة التي تتركز فيها القوى الفعلية على الأرض وعلاقاتها المتشعبة مع الإسلاميين المتشددين ومع بعض القبائل والجهات.
ويقول الباحث المتخصص في الشؤون الليبية، كامل عبد الله، إن الحدثين الأمنيين الكبيرين اللذين وقعا في بداية ونهاية الأسبوع الماضي، يؤشران لخطورة ما آلت إليه الأوضاع الأمنية والسياسية في ليبيا بعد مرور أكثر من عامين على سقوط نظام القذافي. والحدث الأول الذي يشير إليه هو اعتقال «أبو أنس»، الذي تتهمه واشنطن بالضلوع في تفجيرات نيروبي ودار السلام عام 1998، من أمام منزله في العاصمة طرابلس. والحدث الثاني في رأيه هو «اختطاف زيدان على يد مجموعة مسلحة». ويزيد قائلا إن الأحداث الأخيرة تظهر مدى هشاشة الوضع الأمني الذي يعاني منه الشعب الليبي، خاصة بعد أن أصبح للميليشيات المسلحة سطوة ونفوذ، يفوق ما يجب أن يكون لدى السلطات الرسمية، الممثلة في الحكومة المؤقتة والمؤتمر الوطني العام (البرلمان)، فضلا عن أنها تظهر إلى أي مدى وصلت حدة الاستقطاب الحاصل في البلاد بين مختلف الفصائل والتيارات السياسية والاجتماعية والثقافية، على المستويات كافة.
وبينما تنشط العناصر المسلحة في دولة لا يبدو فيها أثر يذكر للقانون والنظام، تعاني العملية السياسية من تعثر كبير.. ويقول عبد الله إن السبب يرجع إلى «خلافات شديدة بين الأطراف المكونة من تيارات إسلامية وجهادية ومعتدلة وليبرالية ويسارية وجهوية وقبلية تغلب عليها العصبية.. ويحظى التيار الجهادي في ليبيا بسطوة ونفوذ كبير».
ويوجد في المؤتمر الوطني ست كتل سياسية رئيسة: الأولى تمثل «تحالف القوى الوطنية» ذا النزعة الليبرالية، وتعتبر أكبر كتلة داخل البرلمان، وكان ينتمي إليها محمود جبريل، كما ساندت هذه الكتلة الدكتور زيدان في الوصول لموقع رئيس الوزراء. تليها كتلة «العدالة والبناء» الذراع السياسية لجماعة «الإخوان» الليبية.
أما ثالث كتلة سياسية لافتة للنظر داخل البرلمان، فهي كتلة «الوفاء لدماء الشهداء» ذات الاتجاه الإسلامي، ويقودها عبد الوهاب قايد، شقيق أبو يحيى الليبي، الرجل الثاني في تنظيم القاعدة، وتعتبر أكثر تشددا من حليفتها داخل المؤتمر، أي كتلة «العدالة والبناء»، الإخوانية. وكانت هاتان الكتلتان، بما لهما من ظهير مسلح في الشارع، لاعبا رئيسا في الضغط بالسلاح على السلطات الرسمية من أجل إقرار قانون العزل السياسي الذي ما زلت البلاد تعاني من تبعاته إلى الآن.
ويقول عبد الله: «لهاتين الكتلتين نفوذ قوي ومسيطر داخل وخارج (المؤتمر)، سيما أنهما تملكان ظهيرا من الميليشيات المسلحة التي تفوق إمكاناتها العسكرية كثيرا إمكانات السلطات الرسمية الممثلة في المؤتمر الوطني العام والحكومة المؤقتة».
أما رابعة الكتل السياسية أهمية في البرلمان، فهي كتلة «يا بلادي»، والخامسة كتلة «صوت المرأة» الخاصة بالنساء داخل «المؤتمر»، والكتلة السادسة خاصة بالسلفيين. ويعد الصراع الأبرز بين هذه الكتل، ذلك الدائر بين كتلة «تحالف القوى الوطنية» من جانب، وكتلتي «العدالة والبناء» الإخوانية و»الوفاء لدماء الشهداء» من جانب آخر. ويروي عبد الله أن الكتلتين الأخيرتين تمتلكان بشكل صريح «ميليشيات مسلحة» يقودها ثوار سابقون ذوو اتجاه إسلامي متشدد.
وتخضع العاصمة طرابلس لصراع نفوذ بين هذه الميليشيات؛ إذ يسيطر عليها أكثر من 24 تشكيلا مسلحا، وطرابلس نفسها مقسمة لمناطق نفوذ فيما بينها، وتدعي جميعها الشرعية.. «رغم أنها تتبع، في حقيقة الأمر، جهات سياسية ودينية وقبلية»، كما يقول عبد الله، مشيرا إلى أن «المناطق الحيوية في العاصمة طرابلس خاضعة تماما لسيطرة ميليشيات إسلامية، مثل المطارات والأجهزة الأمنية، ومقربة أيضا من جماعة الإخوان المسلمين وقيادات سياسية محسوبة على (الجماعة الليبية المقاتلة) سابقا».
ويحظى ما لا يقل عن 14 إسلاميا، سبق لمعظمهم القتال في أفغانستان والانضمام لـ«الجماعة الليبية المقاتلة»، بمواقع مهمة في الدولة الليبية الجديدة في مرحلة ما بعد القذافي خاصة في «الأجهزة الأمنية والمرافق الحساسة بالدولة، مستفيدة من الأوضاع الجديدة التي نشأت بعد سقوط نظام القذافي»، وفقا لعبد الله.
وتشير المعلومات إلى أن العاصمة تخضع كذلك لـ»صراع ميليشيوي قبلي – إسلامي»، الأول تقوده ميليشيات تابعة لمدينة الزنتان الجبلية الواقعة غرب العاصمة، أبرزها «ميليشيا القعقاع» التي يتهمها الإسلاميون بأنها الذراع العسكرية والأمنية التي تدعم «تحالف القوى الوطنية» الليبرالي ومؤسسه جبريل، وتتصارع مع ميليشيات تنتمي لمدينة مصراتة الواقعة إلى الشرق من طرابلس وميليشيات إسلامية أخرى للسيطرة على العاصمة. ويتبادل كلا الطرفين في العاصمة الاتهامات فيما بينهما بدعم الميليشيات الإسلامية التي لها نفوذ كبير وارتباطات غامضة في ليبيا وخارجها.
وتشير خارطة الميليشيات الإسلامية المسلحة في ليبيا إلى أنها تملك في البلاد ما لا يقل عن تسعة معسكرات تدريبية محصنة منتشرة في جميع مناطق البلاد؛ أبرزها وأهمها على الإطلاق مركز القيادة العسكرية لـ»الجماعة الليبية المقاتلة» بمدينة درنة بالجبل الأخضر، ومعسكر «أبو سليم» في العاصمة طرابلس، وآخر في مدينة الزنتان الجبلية.
ويقول عبد الله: «في بنغازي، في الشرق، يوجد معسكران أحدهما يتبع جماعة (الإخوان) وتشرف عليه قيادات محسوبة على الجماعة ويقع مقره بمنطقة بوفاخر، والآخر يتبع (السلفية الجهادية) ومقره منطقة (الليثي) التي بات يطلق عليها قندهار الصغرى (بسبب سطوة المتشددين فيها)». أما في مدينة سرت، شرق العاصمة، التي كانت معقلا سابقا للقذافي، فيوجد فيها معسكر «الظهير»، بينما يوجد قرب الحدود التونسية معسكر في «قاعدة الوطية الجوية» التي كانت تابعة للجيش الليبي قبل أن يسيطر عليها المسلحون ويحصنوها جيدا، في حين يوجد في الجنوب، في منطقة سبها وحدها، ثلاثة معسكرات خاصة بالجهاديين.
ما الإجراءات التي تحتاجها ليبيا لكي تكون دولة قوية ومتماسكة؟ يقول البروفسور بالروين ردا على أسئلة «الشرق الأوسط» من مصراتة: «هذا سؤال فلسفي غير بسيط، وهذا من السهل الممتنع.. ليبيا تحتاج لمجموعة من المؤسسات التي تستطيع أن تقوم بواجباتها. غالبية المؤسسات التي لدينا ما زالت هشة، وما زال الاعتماد قائما على مؤسسات تقليدية مثل القبيلة والجهة أو الشخصيات».
ويضيف البروفسور بالروين: «نحتاج لوجود مؤسسات مثل مؤسسة الشرطة ومؤسسة الجيش ومؤسسة البرلمان ومؤسسة الرئاسة، لكن الليبيين في انتظار انتخابات (لجنة الستين) أو لجنة إعداد الدستور، وأعتقد أنها ستكون هي المحك، لأنها أحد الآمال التي من خلالها نستطيع أن نؤسس لمؤسسة دستورية، ومن خلالها نستطيع أن نبدأ في بناء المؤسسات التي تحتاجها الدولة القوية. أعتقد أنه من الصعب تأسيس دولة قوية في بضع سنين، ولا بد أن نضع الأسس والمنطلقات لـ(دولة قوية ديمقراطية عادلة يحترم فيها الإنسان بصفته إنسانا)». وعن الإجراءات السريعة لوقف دائرة العنف والخطف وعدم الاستقرار، يقول بالروين إن الأهم هي «عملية احتواء الثوار، وألا تستمر كل مجموعة لديها رئيس، والحكومة تتعامل معهم باستخدام أسلوب المسكنات». ويقول: «فلتوضع كل الخيارات أمام الثوار على الطاولة، وأن يكون هناك خيار واحد؛ وهو أن تكون هناك مؤسسة؛ قد تكون الجيش»، لكنه يشير إلى أن المشكلة تكمن في عدم حسم الموضوع ويقول: «الدولة، سواء كانت البرلمان أو الحكومة، تمدد في هذا الوضع أكثر من محاولة علاجه».
ويرى أن الحل الذي يمكن معه العمل على لم شمل الليبيين وحل مشكلات الثوار والجيش والشرطة، يكمن في «إيجاد آلية.. في الحقيقة أن الغائب في ليبيا هو إيجاد منهجيات. الحكومة والبرلمان في الحقيقة، ومع احترامي لهما، عجزا عن إيجاد آليات لكيفية الاحتواء».
ويتهم «الثوار» الحكومة بالتقصير وعدم القدرة على التعاطي مع العديد من الملفات بما في ذلك الملف الأمني، بعد مرور سنة على مقترحات لحل إشكالية الكتائب والميليشيات بتشكيل «حرس وطني» يستوعب الآلاف من عناصرها برواتب مجزية، إلا أن هذا لم يخرج إلى أرض الواقع، بسبب وجود قوى تستفيد على ما يبدو من وجود مجموعات المسلحين بعيدا عن الجيش والشرطة.
وتحدث البروفسور الليبي عن صعوبة مواجهة الثوار حاليا، ويقول: «مواجهة الثوار الآن من الصعوبة بمكان، لأنه لا يوجد جيش يستطيع أن يضاهي الثوار، وعملية احتوائهم يمكن أن تكون من خلال منهجيات معينة من خلالها نستطيع أن نقف على أرجلنا ونوحد كلمتنا ونوحد حتى لباسنا، فمن المخجل أن ترى مجموعة من الثوار في طرابلس يرتدون الملابس بشكل وفي مصراتة بشكل آخر.. هذه أمور صغيرة، لكن الرمزية فيها خطيرة للإنسان الذي يأتي من الخارج.. وهذا مؤشر من مؤشرات قياس الاستقرار في الوطن». ويزيد بالروين موضحا أن الأمر «ليس مجرد أن تطالب الثوار بأن ينسحبوا، لكن لو وجدوا معسكرات قرب المدن وأعطوهم رواتب حتى لو كانت عالية لفترة محددة، لأن كثيرا من الثوار ينظرون لما يقومون به الآن بوصفه عملا أكثر منه عملية ثورية.. وحين توفر له عملا آخر أو راتبا أعلى، سيتحول. المشكلة أننا نتحدث في ليبيا عن مصطلحات مثل «الحوار»، لكننا لا نتحاور، وكأن الحوار موجه لطرف آخر، بعيدا عن الليبيين».