سمير عطا الله
قال اليوناني الأول «أيها الإنسان اعرف نفسك» وتركنا نتسلى في كلمات متقاطعة سقط منها السطر الأول عامودياً والسطر الأخير أفقياً. وغالبية الناس قررت منذ البداية ألا تحاول، ورأت أنه من الأفضل ألا يعرف الإنسان شيئاً والسعادة قسمة الذين لا يعرفون. أجهلهم أسعدهم.
الطراز الأخير من سيارات المرسيدس تحفة في التكنولوجيا مثل الجيل الثالث من الهواتف القارية. منها سيارات صالون رباعية الدفع تسير في السهول كالزرافة وفي الثلوج كالدببة. تعطيها الأوامر صوتياً فتمتثل. وتلقن مقعدك مقاييس راحتك ودرجات الالتواء عند الأكواع، فيحفظ ولا ينسى. ويفاجئك الضباب فتضيء الأنوار الخارقة، وتصادفك المطبات فيشتغل الرادار كأنك في مطار اوهير، شيكاغو. وإلى آخره. وأنا أحن إلى المرسيدس 180 التي كانت فيها مسّاحة الزجاج الأمامي من الزوائد والراديو من الكماليات. وكان محول السرعة فيها في المقود، يختلط فيه الدفع الخلفي بالسرعة الثانية. وكانت فيها ثلاث سرعات بطيئة التغير مقابل 6 سرعات في سيارات اليوم. وكانت عملية تغيير الزيت مضنية وعملية «التشحيم» طويلة. والميكانيكي الذي يؤدي ذلك كانت ثيابه مليئة بالزيوت (ضع نمرا في سيارتك!) والشحوم مثل ربطة عنق الحفناوي، عازف الكمان الأسطوري في فرقة «الست». والآن عمال الكاراجات يرتدون المعاطف البيضاء مثل أطباء القلب. وأنا أحن إلى طراز 180 الذي كان «النقلة» من الفورد طراز «تي» الذي جعل منه أغبياء العالم أسطورة السيارات. وكان الفورد تي ذا سرعتين، الثانية غالباً لا تعمل. وكانت إذا أمطرت، أمطرت في الداخل والخارج. وكان «التابلو» أمام السائق خشبة عارية ليس فيها سوى زر «الإحراق» أو زر التشغيل. ولا عدّاد سرعة ولا عدّاد زيت ولا عداد حرارة. فقد كان عليك أن تحمل في الصندوق الخلفي وعاءين، واحدا للوقود وآخر للمياه. ولا تعرف متى تحتاجهما.
لكن «الفورد تي» تحولت إلى تحفة مثل لوحات بيكاسو. والمرسيدس 180 لا تزال تعمل في بيروت الآن كما كانت تعمل لدى وصولها العام 1958 أو 1957، سيارة سرفيس بين أحياء المدينة وضواحيها. ولم يتغير سعر نقل الراكب، فهو 1500 ليرة بدل 10 قروش. وفي الغالب السائق أيضاً لم يتغير. فقط عدّاد الكليومترات تغير. و«انقلب» عاماً بعد عام. ولعلني لا أبالغ إذا قلت إن هذه الواب العجيبة قطعت حوالي مليوني كيلومتر بين «نزلة المنارة» و«طلعة الداعوق». وما زال سائقها يضع على مقدمتها خرزة زرقاء و«عين الحاسد تبلى بالعمى». وأنا أحن إلى المرسيدس 180. كنت استأجرها من أمام الجامعة الأميركية لثلاث ساعات، وأحياناً أقدر على نهار كامل، وأطوف بها أمام منازل البنات اللواتي أتمنى التعرف إليهن، لعل إحداهن تريد «توصيلة» إلى ساحة البرج. أو عند عمتها في المصيطبة. ونادراً ما حدث. وعندما كان يصدف، كنت أتلعثم وأخطئ في محوّل السرعة، وتعود الـ 180 إلى الوراء بدل أن تنطلق. وتتجاهل البنت الذاهبة إلى بيت عمتها «الحمرنة» في السواقة وتقول: «هذه علة المرسيدس»! وقد صححت العلة في طراز «مايباخ» الآن. ولا أعرف إذا كانت نفسي تحن إلى الـ 180 أو إلى الذاهبات إلى بيوت عماتهن.