صحافة القديم، كما الحديث، المقال ليس خبراً، إنه رؤية ورأي، لذلك تذهب الرؤى والآراء المنشورة مع أزمنتها، وتبقى الأحداث في محطاتها الأخيرة، وتبقى الحقائق، أو بعضها، في ضمائر رواة شهدوا، أو سمعوا، أو اطلعوا، حتى إذا جاء من يفتح ذاكرتهم تكلموا كما لو أنهم أمام المستنطق الذي يستدرجهم الى البوح بما يحاولون أن يتجنبوه. وهذا ما فعله غسان شربل في كتابه الأخير «لبنان ? دفاتر الرؤساء» الصادر عن «دار رياض الريس للكتب والنشر».
لا يستطيع لبنان الهروب من قدره «السوري»، يقول المؤلف في مقدمته. وهكذا يمسك بالخيط اللبناني من أوله، ثم يروح يروي مراحل من زمن ما بعد الاستقلال، مستعيناً بستة رجال كانوا من بين من شاركوا في مسيرة حكم لبنان، بدءاً من منتصف القرن الماضي حتى مشارف عقده الأخير: فؤاد بطرس (ذاكرة الجمهورية وزمن الشهابية)، ريمون إده (عميد المنفيين)، صائب سلام (البيروتي العتيق)، شفيق الوزان (المظلوم كثيراً)، كامل الأسعد (الديموقراطي بنكهة البكوات)، حسين الحسيني (حارس الطائف).
الشهود الستة حاورهم المؤلف عن أدوارهم وعن أدوار رؤساء للجمهورية اللبنانية عاصروهم أو شاركوهم في المسؤولية. ولكنه لم يكتف بشهاداتهم، فاستعان بشاهدين من خارج الوظيفة السياسية الرسمية، هما: منح الصلح وكريم بقرادوني.
لم يبتعد المؤلف كثيراً من موضوع الجرح السوري في الجسد اللبناني، ذلك أن هذا الجرح عميق، وهو ملتهب على الدوام، ومنه تفتحت جراح كثيرة في الجسد اللبناني الذي لم يتعاف منذ نحو أربعة عقود.. وهو الآن يصدّر جراحه وآلامه على مدار خريطة العالم العربي، ليعود ويفاجأ بأن بضاعته تُرَدُّ إليه، وهو بريء من صنعها، بل إنه أولى ضحاياها.
ولم يكن المؤلف في حاجة الى مزيد من التفاصيل والوقائع التي رافق بعضها، إذ يكفيه أن يتذكر ليذْكر بعض ما سجّله وما سمعه عن جرح لبنان من رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء وسفراء أجانب وعرب.
ثم إنه تذكّر كثيراً وذكَر قليلاً.
مثلاً: «بيروت مصنع الزعامة العربية، أو شرفة الإعلان عنها»، والكلام لوزير خارجية ليبيا في عهد القذافي، عبد الرحمن شلقم. فكم كلفت لبنانَ الدولة، واللبنانيين هذه الصناعة التي أُلزمت بيروت باحتكارها؟ ويعلّق المؤلف: «يدفع لبنان الثمن مرتين: الأولى حين تكون سورية قوية ومستقرة. والثانية حين يتوزع السوريون محاربين ونازحين يملأون مدنه وقراه». ويضيف: لقد افتقدت الدولة اللبنانية المتداعية صمام الأمان.
ومع ذلك تستمر شرعية ونافذة «معاهدة الأخوّة والتعاون والتنسيق بين لبنان وسورية»… هذه أيضاً من قدر لبنان.
وإذ يعود المؤلف الى العقد الأول من عمر الاستقلال اللبناني، وهو عقد النكبة الأولى في فلسطين، يقول: «كان على لبنان أن يستقبل الفلسطينيين اللاجئين في خطوة لم يدرك يومها أنها ستُحكِم ربط مصيره بالمصير الفلسطيني. وكانت الدولة طرية العود، ولم تكن فكرة الدولة هاجس أهل القرار». هكذا تنضم فلسطين إلى لائحة أقدار لبنان، وسوف تبقى اللائحة مفتوحة أمام كل من وجد الى الوطن الصغير سبيلاً..
يصعب ضبط حركة غسان شربل بين الفصول المزدحمة بالأحداث والمضاعفات والمفاجآت، لكنه لا يقطع الخيط الذي يمسك به، ويمضي في دربه، مُستدلاً على مكامن المعلومات والحقيقة، فلا يدخلها إلا من أبوابها، ولا يفاجأ إذ يكتشف وراء كل باب شريكاً لبنانياً..
«هدير الناصرية»… بهاتين الكلمتين وصف المؤلف إطلالة جمال عبد الناصر على مصر، وعلى سائر الأقطار العربية والعالم في أيلول (سبتمبر) 1952.
لقد تزامن ذلك الهدير مع جلوس كميل شمعون «فتى العروبة الأغر» على كرسي الرئاسة في لبنان. ولن يتأخر الرئيس شمعون في الإبحار ضد التيار الناصري «إلى أبعد مما تستطيع التركيبة اللبنانية احتماله. وكان صعباً على عبد الناصر أن يقبل باستمرار غربة «الإقليم اللبناني».
ثم لم يتأخر الرئيس شمعون مرة أخرى في إسقاط رموز لبنانية «ذات صفة تمثيلية واسعة في طوائفها» (كمال جنبلاط في الجبل، صائب سلام في بيروت، أحمد الأسعد في بيروت). حدث ذلك في الانتخابات النيابية عام 1957، ما أدى الى تفجير ثورة 1958 التي لم تتوقف إلا بعد انتخاب قائد الجيش الجنرال فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية.
ويبقى المؤلف في «العهد الشهابي» ليقول: «أكثر من أي يوم مضى يتأكد أن الحقبة الشهابية تستحق وقفة تأمل، خصوصاً بعدما بردت التصريحات النارية». وهو يختصر الشهابية باختصار فؤاد شهاب، الذي يصفه بأنه «الأمير الوافد إلى الرئاسة من الثكنة مزيجاً من البساطة والتواضع والكبرياء، والزهد، والأنفة، والرغبة في إمساك الخيوط».
«ولأننا نموت حنيناً الى زمن الدولة التي تستحق التسمية ونشعر بافتقار أيامنا الى القامات، قررت محاورة فؤاد بطرس». يكتب المؤلف، ثم ينقل عن فؤاد بطرس فقرات مما قاله عن فؤاد شهاب:
«كان فؤاد شهاب يدرك نقاط الضعف في لبنان ويعتبر أن معالجتها رهن بتربية، وبإعطاء أمثولة بأن يكون قدوة، وبأنه إذا أردنا في الوقت ذاته أن ننتقل دفعة واحدة من حال إلى حال، على الأقل، يجب أن نحصنها، لأن القفز المفاجئ يمكن أن يؤدي إلى خضة كبيرة في البلد، ويقضي على الحريات، وعلى الديموقراطية».
هل كان فؤاد شهاب تسوية بين الأميركيين وجمال عبد الناصر (1958)؟
من دون شك كان تسوية على أساس أنه حل التعادل السلبي، يجيب بطرس، ويضيف: «ففي المباراة لم ينتصر أحد، لأن فؤاد شهاب لم يكن أميركياً، ولم يكن ناصرياً، ولكنه كان يراعي هذا وذاك، باعتبار أن كل واحد كان يقبل به على أساس أنه له، بل على أساس أنه ليس ضده. وهكذا تحصل التسوية.
المعروف أن فؤاد شهاب رشح بعد نهاية ولايته عام 1964 شارل حلو لرئاسة الجمهورية.
مع أفول نجم الشهابية بعد نهاية عهد شارل حلو، حان وقت الأمل بانتخاب رئيس لبناني مدني ديموقراطي حر وشجاع ويؤتمن على مستقبل الوطن، فتطلع اللبنانيون، بأكثريتهم الشعبية، نحو الرجل الملقب بـ «ضمير لبنان»، وهو العميد ريمون إده، ابن رئيس الجمهورية الأسبق إميل إده في عهد الانتداب الفرنسي.
ولأن الشعب اللبناني لا يحق له أن ينتخب رئيسه، بل نوابه فقط، ذهبت الرئاسة إلى النائب سليمان فرنجية الذي فاز بأكثرية صوت نيابي واحد كان صوته هو.. كان ذلك عام 1970، وكانت الحرب اللبنانية الداخلية على الأبواب، وكان جيش النظام العسكري السوري خلف الأبواب، فأصبح العميد ريمون إده منفياً في باريس.
لماذا العميد في باريس، ولماذا لا يصعد الى طائرة متجهة الى لبنان؟ سؤال للمؤلف أجاب عنه ريمون إده بخلاصة اختصرت أزمة لبنان وطريقة خلاصه. قال إده: أحاول من خلال وجودي هنا أن أخدم بلدي. أجري اتصالات بواشنطن والفاتيكان وفرنسا. لدي هدف واحد هو تحرير لبنان: أي انسحاب الجيش الإسرائيلي أولاً تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 425، وبعدها لا يعود هناك مبرر لوجود الجيش السوري».
«البيروتي العتيق».. اللقب للرئيس صائب سلام، أحد رجالات الاستقلال اللبناني ووالد رئيس حكومة لبنان حالياً تمام سلام. والرئيس الأب يعتز بلقبه، وهو الذي تولى رئاسة الحكومة اللبنانية أكثر من مرة، وواجه أزمات صعبة، لعل أولها هجوم الغدر الإسرائيلي على أحد أحياء بيروت فجر ذات يوم من العام 1973، وكان الهدف ثلاثة من قادة منظمة التحرير الفلسطينية، ولم يكن الرئيس سلام يملك غير ورقة الاستقالة استنكاراً لتقصير قيادة الجيش آنذاك بواجب تدارك العدوان قبل وقوعه ثم مواجهته.
العدوان الإسرائيلي الآخر الأكبر والأشمل الذي تعرض له لبنان ولا يزال يحصد ارتداداته حتى اليوم، حدث عام 1982، واستهدف كل مواقع المقاومة الفلسطينية في الجنوب وبيروت..
عن تلك الفاجعة الفلسطينية? اللبنانية? العربية سأل غسان شربل الرئيس صائب سلام في منزله، ولم يكن رئيساً للحكومة:
حُكي عن صِدام يومها بينك وبين أبو عمار؟
أجاب سلام: نعم.. ذات يوم في 1982 كان هناك جمع التقى في هذا المنزل. تحدث أبو عمار عن خطوات تصعيدية، فقلت له: الحرب تحتاج الى سلاح ومال يا أبو عمار. فرد: «المال موجود. البنك المركزي تحت حمايتي وحراستي. أفتحه لكم»
فرد عليه سلام: هذا لا يجوز يا أبو عمار..
فقال أبو عمار: «تردّون هذه الأموال لاحقاً..»
وعلق سلام: طبعاً، أنا لم أوافق في أي يوم من الأيام على خطوات غير واقعية، خصوصاً أن البنك المركزي مؤسسة لبنانية أساسية ولا يجوز المس بها.
في عهد حكومة الوزان تم عقد «اتفاق 17 أيار» مع إسرائيل، وهو الاتفاق الذي وصف بـ «اتفاق العار».
سأله غسان شربل في سياق حوار صعب، وقد لاحظ مرارة غير عادية في حديثه: هل تعتقد بأنك ظُلمت؟
«ظُلمت كثيراً وطويلاً..» أجاب الوزان. وعبّر عن مرارته قائلاً: تحملت ضغوطات وتهديدات. كان هناك قرار بفرض العزلة علي على الصعيد الوطني، وحتى داخل الصف الذي نشأت فيه وشاركت في حمل أحلامه وهمومه وقضاياه. ما يؤلمني ليس ما تعرضت له شخصياً. فأنا مرتاح الضمير، وربما تجيء ساعة تتكشف فيها حقيقة الأشياء.
مَن من القيادات السياسية كنت تشعر بالانسجام معها ولو من موقع المختلف؟
سؤال طرحه المؤلف على رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد الذي حدث في عهده الاجتياح الإسرائيلي وتم عقد اتفاق 17 أيار، ثم جرى انتخاب بشير الجميل رئيساً للجمهورية اللبنانية، ثم بعد اغتياله قبل تسلمه الرئاسة وأداء اليمين الدستورية، انتخب شقيقه الأكبر أمين الجميل رئيساً.
وقد لخّص الأسعد رأيه في خمسة رؤساء جمهورية. وإذا جاز اختصار الأجوبة، فهذه عناوين:
كميل شمعون: سياسي بارز
فؤاد شهاب: أخلاقي ممتاز
سليمان فرنجية: ممتاز أخلاقياً. ولكن مع احترامي لآل فرنجية الكرام، لم يكن لديه تصور لعمل الدولة وموقع المؤسسات.
الياس سركيس: كان آدمياً، لكن مشكلته الحقيقية هي أنه كان دائماً الرجل الثاني قبل توليه الرئاسة.
شارل حلو: جاء من نصحني بأنه «رجل ثان ممتاز» لكنه لا يستطيع أن يكون الرجل الأول.
بشير الجميل: اجتمعنا على ما أذكر خمس مرات. خرجت من لقاءاتي معه بانطباع أنه ليس عميلاً لإسرائيل، وإن كان من المتعاملين معها لكونه حصل على سلاح منها. شعرت بأنه بريء، ويمكن أن تغسل دماغه أو تؤثر في قناعاته.
أمين الجميل: كنا قد تفاهمنا (معه) على مبادئ عامة: لبنان عربي وصاحب رسالة عربية.
إميل لحود: سبق أن وجهت إليه رسالة تتضمن نقاطاً تتعلق بمهمته كرئيس للجمهورية وبـ «خطاب القسم»، وما حصل لاحقاً يتناقض تماماً مع ما سُمي بـ «خطاب القسم».
مع رئيس مجلس النواب السابق حسين الحسيني، اختار غسان شربل أن يستطلع رأيه في شخصيات لبنانية رئاسية، فأجاب الحسيني:
رشيد كرامي: صاحب أعصاب هادئة. يمتلك قوة احتمال في أوقات الخطر. رجل دولة بكل ما للكلمة من معنى.
كميل شمعون: رجل دولة من طراز رفيع، خلافاً لما يراه الآخرون. هو في المظهر شيء وفي الجوهر شيء آخر.
بيار الجميل: شخصية مميزة. يحترم القانون، لكنه كان متطلباً جداً لدى أي بحث في إصلاح النظام السياسي.
ريمون إده: رجل دولة فاعل على الأرض. برهن أنه من طراز رفيع. لعب دوراً كبيراً ومميزاً في فرض هيبة الدولة في منطقة بعلبك? الهرمل.
تقي الدين الصلح: ذو أفق واسع ومتفوق على الآخرين.
لا خاتمة لكتاب غسان شربل «لبنان? دفاتر الرؤساء»، فالصفحات تبقى مفتوحة على أحداث ورجال وأدوار، في وطن نعرف ماضيه ونجهل مستقبله. ويبقى الأمل فيه مختلفاً بين فئة وفئة، وحزب وحزب، وطائفة وطائفة.