بقلم محرر الشؤون الاسترالية / بيار سمعان

قد تكون «كرة القدم» من اكثر الرياضات شيوعاً في العالم، وهي رياضة شعبية يمارسها الناس من مختلف الاعمار والمستويات الاجتماعية.

من شوارع وأزقة ريو دي جنيرو الفقيرة في البرازيل، الى المساحات الجافة في الدول الافريقية. من ملاعب اوروبا الفخمة، الى المناطق الحارة والصحراوية في دول الخليج. انها لعبة الفقراء واولاد الشوارع  كما هي لعبة المحترفين الذين يتقاضون مليارات الدولارات سنوياً، نظراً لتفوقهم وبراعتهم ولقدرتهم على تسجيل الاهداف.

البرازيل والمانيا، فرنسا وايطاليا، اسبانيا والبرتغال، السنيغال ونيجيريا، اليابان واستراليا وغيرها من الدول التي برع لاعبوها واصبح لديها فرق متمايزة، تشارك كل 4 سنوات في مونديال عالمية للفوز بكأس العالم.

هذه الفرق هي دون شك مصدر مفاخرة لمواطنيها، ومثالاً اعلى للشباب حول العالم.

كما انها وسيلة فضلى للطموحين لتحقيق الشهرة والإثراء، بعد ان تحولت هذه الرياضة الشعبية الى قطاع استثماري مزدهر تُدفع فيه الاموال الطائلة للرياضيين، وتفرز الملايين من الدولارات لاعداد وتدريب الفرق والترويج الاعلامي لها.

وفيما يرى البعض ان الرياضة، بشكل عام، والدورات الرياضية بنوع خاص، تعمل على توطيد العلاقات الانسانية بين البشر وتدعم روح الإلفة والتناغم بين الناس، وتفسح المجال لفئات الشباب لتحقيق طموحاتهم واحلامهم، وهي ظاهرة اجتماعية صحية، انطلاقاً من مقولة «العقل السليم في الجسم السليم»، يعتقد آخرون انه يجرى استغلال الرياضة والدورات الرياضية لإلهاء الشعوب وتوجيه قدراتها عن الامور الحياتية والسياسية، ولاستغلال خيرات الدول في نشاطات لا تجدي نفعاً على الصعيد البشري. لقد تحولت هذه الظاهرة الى ملهاة والى وسيلة استغلال.

لكن مهما تنوعت النظرة وتعددت الآراء تبقى «مونديال كرة القدم» من اهم الاحداث، اذ يتسمّر ملايين الناس لمشاهدة المباريات وينقسم المجتمع الدولي من مؤيد لهذا الفريق او متحمّس او مناوئ لفريق آخر..

وتدوم مفاعيل التوترات طوال الدورة، وقد تتخطاها لأبعد من ذلك.

< لبنان والمونديال

قد يكون اللبنانيون من اكثر الشعوب حماساً لمونديال كرة القدم، رغم ان لبنان لم يشارك قط في هذه المونديال، لكن اللبنانيين في الانتشار يشاركون في اكثر من فريق دولي، نظراً للانتشار اللبناني في العالم. فهناك لاعبون من اصول لبنانية مع البرازيل والعديد من الفرق الاوروبية والاسترالية واميركا الجنوبية. وهذا  هو مصدر افتخار، لأن اللبناني المقيم يعتبر في قرارة نفسه، ان المتحدرين من اصول لبنانية هم لبنانيون ويصعب نزع هذه الصفة عنهم، «فأنت لبناني  الى الأبد».  كما قال عمر الشريف في احدى مقابلاته وهذا ينطبق على المتحدرين من اصول لبنانية كما ينطبق على لبنانيي الوطن الأم.

تُشكل «المونديال» منعطفاً هاماً في حياة اللبنانيين. ولا يكتفي اللبنانيون بتتبع المباريات وتأييد فريق ضد آخر، بل يذهب هؤلاء الى ابعد من ذلك. فيرفعون اعلام الدول المشاركة وصور اللاعبين وقمصانهم.

وخلال المونديال يتناسى اللبنانيون همومهم الحياتية وانقساماتهم السياسية وتحزبهم ويتجاهلون صور قادتهم السياسيين التي تحجبها صور واعلام لا علاقة لها بالوطن، ولا مصلحة مباشرة لهم في دعم اي من الدول المشاركة في دورة كأس العالم.

لكن يبدو ان اللبناني تخلى عن الوسطية. فإن احب، اعمى الحب بصيرته،  وان أبغض يعادي الطرف الآخر. وان مارس الجنون، فلا حدود لجنونه ولا اعتبارات تحدّد تعبيره عن هذا الجنون.

وأسوأ تعبير فاضح ومأساوي عن هذا الجنون، كان مؤخراً حادثة طعن الشاب محمد زهر (20 عاماً) وهو من مشجعي البرازيل، على يد اثنين من ابناء بلدته «المريجة» وهما من مشجعي الفريق الالماني، بعد ان طعنه احدهما (17 عاماً) بسكين، كانت كافية لإنهاء حياته.

قد يعتقد البعض انه القدر، لكن سبب الوفاة وحالة الجنون اللبناني خلال المونديال يستدعيان التوقف عند هذه الظاهرة، وطرح سؤال: لماذا يقتل لبناني جاره على خلفية المونديال، ولماذا يتناسى اللبنانيون آلامهم ومعاناتهم ووطنهم للتحزّب لفرق رياضية بعيدة عنهم وطنياً وعرقياً وجغرافياً وطائفياً؟

< خلفيات اجتماعية لظاهرة المونديال اللبنانية

قد يكون الموقع الجغرافي للبنان والانفتاح على الشرق والغرب وانتشار الحضور اللبناني في العالم من العوامل الايجابية التي تدفع اللبنانيين في الوطن للاحتفال بشكل لافت بالمونديال لكرة القدم. فاللبناني يصبح اممياص في هذه الحالات.

لكن، على حد المثل: «الزايد خي الناقص» لذا تصبح ظاهرة التحزب للبلدان والفرق ظاهرة لافتة. فما هي الدلالات غير الصحية التي يمكن من خلالها فهم ما يحدث في لبنان وما هي الامور التي ساهمت في مقتل محمد زهر؟

< غياب الدولة:

يجمع كثيرون في لبنان ان الدولة ومنذ اعلن عن نهاية الحرب الاهلية، لم تتمكن من بناء مؤسسات تنقل المواطن من مفهوم الطوائف المتناحرة الى مفهوم الدولة الراعية والحاضنة والضامنة للاستقرار ولسلامة المواطنين. فالفساد والمحسوبية وسوء الادارة وغياب الضمانات حولت اللبنانيين الى مجموعات كادحة تجهد للبقاء على قيد الحياة. وتبيح كل المحرمات بغية الترقي الاجتماعي والاثراء وتوفير الاكتفاء الذاتي.

وضعف الدولة دفع المواطنين للبحث عن ولاءات الى مجموعات بديلة تملأ الفراغ الذي خلفه غياب الدولة المسؤولة. فالاحتقان الاجتماعي السياسي رغم كل مساعي التفاؤل والأمل، دفع العديد من اللبنانيين، من ذوي الثقافة والوعي المحدودين الى عدم تقدير نتائج افعالهم وانفعالاتهم. فبالنسبة للبعض، خاصة من «يقرأون في كتاب واحد» ومَن يفسرون الامور والاحداث من منظار معين، اصبحت الحقيقة ملونة كما يرونها ومن يرى عكس ذلك فهو جاهل وكافر ومرفوض ويجب الغاؤه..؟؟ فيصبح تحبيذ فريق، ضد آخر من الأمور المنبوذة في بعض البيئات الضيقة وغير المثقفة.

< رفع الاعلام

اما ظاهرة رفع الاعلام لدول اخرى دون اي سبب مبرر يعني بكل بساطة ان الانتماء الوطني هو ثانوي بالنسبة للبعض وان مفهوم الوطنية ليس اولوية للبعض الآخر، رغم كل الادعاءات ان اللبناني هو متمسك بوطنه. فكم من المباريات الرياضية تحولت الى نزاعات مذهبية وطائفية والى ساحة اقتتال بين اللاعبين وانصارهم. فالوطن هو صورة مصغرة لرؤيتنا المجتزأة لحياتنا وتناقضاتنا ولانتماءاتنا الطائفية والمذهبية. وصورة الوطن هي مشوهة بفعل الفساد والتناقض الثقافي والاختلاف في المفاهيم.

< الفلتان الأمني والسلطة الفاسدة

ان فشل التركيبة الحاكمة الفاسدة والعاجزة ان تكون المرجعية الراعية والحاضنة لكل ابنائها بالتساوي، بالاضافة الى الفلتان الأمني  وشيوع السلاح بيد المواطنين، والاستخفاف بالقوانين بالاضافة الى انتشار المخدرات وتوفير الحماية للمخالفين، بسبب المحسوبية، جعلت معظم المواطنين يتحملون مسؤولية حماية مصالحهم وعائلاتهم بشتى الوسائل المتاحة.

والمجتمع اللبناني لم يعد وسطياً مع غياب الطبقة الوسطى وانقسام المجتمع بين اقلية ثرية و اغلبية دون الحد الادنى معيشياً.

اضف الى ذلك ان نظام تنشئة الاطفال في لبنان تُشجع على المخاصمة والأخذ بالثأر واعتماد العدائية بدل الحوار، والعنف عوض المنطق العقلاني، فنحن مجتمع منغلق رغم كل مظاهر الرقي و التقدم والانفتاح.

فمن يقتل  او يخاصم بسبب نزاع حول فريق رياضي، هو انسان يعاني من المحدودية الثقافية والصعوبات الاقتصادية والازمات العاطفية والمشاكل الاجتماعية التاريخة. انه بحث عن الذات خارج المنظومة السياسية الاجتماعية والثقافية السائدة، كرفع الاعلام. فالدم الحامي لدى اللبنانيين يستبيح دماء الآخرين في كل مناسبة وحدث.

المونديال العالمية لكرة القدم التي يتمتع العالم بمتابعتها تحولت لدينا الى تعبير عن حالة اجتماعية غير سليمة تؤشر ان المجتمع اللبناني هو سريع العطب. وهو قادر ان يلجأ الى العنف للتعبير عن الاحتقان الذي يعاني منه، لأن مشاكلنا اليومية والتاريخية لم نجد اي علاج لها ولم تطرح على بساط البحث بشكل موضوعي ومجرّد.

لقد اعتدنا على التكاذب والمراوغة وعدم قول الحقيقة. لهذا يزداد عدد القتلى في لبنان ونرفع اعلام الخارج في كل مناسبة.

فمتى يتحول اللبنانيون الى مشجعين ويتخلون عن العدائية وروح الخصام؟؟