العميد المتقاعد خليل اسبر وهبه

… «اعطيت ملكاً فلم تحسن ادارته»  فليت إنك ما أعطيته ابدا» العام 1943 عندما نال شعب لبنان استقلاله السياسي عن الانتداب الفرنسي، ظن انه اصبح راشداً يستطيع ان يقرر عن سواه وعن نفسه بنفسه ما يلائم هذا الوطن الصغير. وحسب انه  ازاح كابوس القرار الغريب عن صدره بفضل وعيه وادراكه لمسؤولياته. لكنه نسي انه اعطي استقلالٌاً ناقصاً نتيجة الخلافات القائمة بين الانكليز والفرنسيين على الساحة الشرق اوسطية عامة وعلى الساحة اللبنانية خاصة. تحمل الشعب اللبناني ما عاناه بصبر طوال اربعماية وسنتين 402 من حكم بني عثمان الجائر الذي قضى على اكثر من نصف سكان جبل لبنان جوعاً وتشريداً. وعندما وضعت الحرب الكونية الثانية اوزارها عام 1918 اعتقد اللبنانيون انهم تنفسوا الصعداء بزوال الحكم العثماني وحلول الانتداب الفرنسي. الاّ ان الانتداب الذي جثم مجدداً على صدور اللبنانيين لم يختلف الا شكلاً عن السلطنة العثمانية. فالسلطة الوطنية لم تبصر النور الا في اواخر العام 1943. لكن هذا النور الخافت لم يضىء كفاية طيلة فترة الاستقلال الناجز. لأن رواسب الاستعمارين العثماني والفرنسي بقيت معشعشة في صدور الطبقة الحاكمة العفنة والفاسدة؛ وتجذرت اكثر فأكثر في شرايين القادة السياسيين منذ ذلك التاريخ وحتى ايامنا هذه. تسلم الدولة الطرية العود «أكلة الجبنة» اللبنانيون الذين طبقوا المثل القائل: «عديم وقع في سل تين». وشرعوا يستحلبون خيرات الوطن الفقير الى رجالات أكفاء على قياس الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح اللذين وضعا ميثاقاً وطنياً جديداً ؛ والى ابناء مخلصين يوزعون نتاج هذه الارض المباركة على المناطق اللبنانية بالتساوي لاعمارها ونقلها من عالم الجهل والتخلف الى عالم الوعي والادراك والتطور والمدنية. وحلمنا طويلاً ان تصل الاهداف السامية الى خواتيمها السعيدة وينعم اللبنانيون بنعمة حرية الاستقلال. غير ان النتيجة جاءت عكسية، فتحولت نعمة الاستقلال الى نقمة الاستغلال، وتفرق القطيع اللبناني الى قطعانٍ متضاربة في كل اتجاه. ولعبت بوطننا جميع الاهواء والاطماع؛ واصبحت ساحتنا مشرعة الابواب على كل الرياح العاتية الهابة علينا من كل حدب وصوب، ما عدا الرياح الوطنية السليمة الطوية، التي وحدها تخدم مصلحة الوطن والمواطن. يذكرني ما وصلت بنا اليه الحال السيئة بقول الشاعر الذي انتقد حكام عصره في زمانه: … «اعطيت ملكاً فلم تحسن ادارته»… اجل ينطبق قول الشاعر اليوم على حكامنا في لبنان بالامس واليوم ويحملنا على الاعتقاد ان نوالنا الاستقلال الناجز كان خطأً تاريخياً قاتلاً. ربما كان حصولنا على الاستقلال بهذه الفترة المبكرة نقمة حلت على شعبنا المغلوب على امره بدلاً من ان تكون نعمةً تشدّ اواصر اللحمة بين مناطق الوطن وتنهد به الى معارج الرقي والعمران والتقدم. ليس من احد في كل بقاع الارض على امتداد الكوكب الاخضر يرفض نعمة الاستقلال عن اي مستعمر يرخي بأثقاله وهيمنته فوق كل شعب تحت قبة الشمس. فاذا كنا نحن من الرافضين لمثل هذا  الاستقلال فلأننا نضنّ بسمعة وطننا وشعبنا ونأبى ان نسلّم زمام امرنا الى غيرنا ولو كان من بني جنسنا وابناء وطننا، اذ لا فرق بين مصاصي دمائنا من ابناء جلدتنا او اي مستعمر قادم الينا من البعيد.  حالنا داخل لبنان يشبه الى حد بعيد برج بابل حين تبلبلت الالسن ولم يعد سهلاً علينا التفاهم بين مكونات الشعب اللبناني. فكل مجموعة من المذاهب تدين بالولاء لقوة خارجية سوريةً كانت ام ايرانية «ام غربية» الاّ ان الولاء للوطن الأم مفقود وغير موجود. نأمل، قبل فوات الأوان، ان يجمع اللبنانون كل اللبنانيين على انتخاب رئيس للجمهورية التي تفتقر الى رأس يسيّر امورها ويسوّرها برباط متين مقدس هو رباط الوحدة الوطنية. يا عيب الشوم! اما يكفي انقضاء سنتين تقريباً على الفراغ المميت في قمة الهرم؟ الا يستحي حكامنا من تقاعسهم وتلهيهم بالقشور؟ صارفين النظر عن لبّ المشكلة المستعصية بسبب كثرة التدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية، وكأننا بحاجة ماسة الى مساعدة تلك القوى الاقليمية لتدبير امور منزلنا الداخلية؟ ام ان الذين استحوا ماتوا ولم يعد بمقدورنا ان نتدبّر شؤونا بانفسنا، بمعزل عن ارادة الاغراب؟.. واذا كانت امورنا معقدة الى هذا الحد ولا يمكننا حلّها بمعزل عن سوانا فلنكمل مع الشاعر الناقم صدر البيت ونقول: – فليْتَ إنّك ما أُعطيته ابدا»..