بقلم بيار سمعان

في خضم الاجواء السوداوية التي تسيطر على لبنان، الوطن المعطل والمشلول منذ سنوات والذي يتحكم به الفساد والشلل الحكومي واكوام الزبالة وانتشار الأوبئة ونسبة السرطان المرتفعة بفعل الاهمال البيئي والصحي والاداري، وتفشي المحسوبية وتقاسم خيرات الدولة التي شارفت على الانهيار الكامل بفعل قيام الدويلات والامارات على ارضه والمحاصصة في السرقات خرج من بكركي بصيص نور وامل جديد، بعد ان رعى وبارك البطريرك بشارة الراعي المصالحة التاريخية بين القوات اللبنانية والمردة متمثلين بالدكتور سمير جعجع والزعيم الوطني الوزير  السابق سليمان طوني فرنجية وحشد من الفريقين.

ومع هذه المصالحة الصادقة يوم الاربعاء 14 تشرين الثاني 2018 طويت صفحة أليمة من تاريخ الشمال وموارنته. وتنفس اللبنانيون الصعداء، وهم العارفون بأهمية هذه المنطقة، ليس فقط على مستوى الشمال المسيحي، بل على الساحة اللبنانية بأسرها اليوم وعبر التاريخ.

< فرّق تسد

لن اعود الى ذكر تفاصيل ما جرى في اهدن بتاريخ 13 حزيران 1978، بعد ان طوى جعجع وفرنجية صفحة الماضي في بكركي، بعد ظهر الاربعاء الماضي. لكن لا بد من التذكير انه عندما اتحد المسيحيون لحماية انفسهم ومنع ترحيلهم شكلوا حصناً منيعاً في وجه خصوم الداخل ومؤامرات وتواطؤ الخارج.

لذا اتخذت قرارات سرية بضرب وحدتهم، فاصطدمت مشاريع «توحيد البندقية» المسيحية بخصوصيات المناطق والزعامات المحلية، وتصادمت النزعة  العروبية مع النزعة الصهيونية، واستفاد النظام السوري من التضارب في المواقف ليسهل وقوع حادثة اهدن الأليمة.. ويكرس فصل مسيحيي الشمال عن كسروان والمنطقة الشرقية. وبدأ العمل على تفتيت القوة المسيحية التي ارعبت الشرق، وارغمت الغرب على اعادة حساباته. وظن الرئيس حافظ الأسد ان بمقدوره الاستفادة من التفويض الاميركي ليضم لبنان الى سوريا الكبرى، من خلال ضرب الزعامات وتقسيم الطوائف والاحزاب وزرع قيادات جديدة تأتمر بأوامره.

لقد تناسى هو وآخرون ان لبنان هو «ارض وقف لله» «وان سيدة زغرتا وبشوات وحريصا والمطلة تحرسه برمش العين وتحميه بمعطفها ومحبتها الخاصة هذا الوطن الصغير.

هذه الحقيقة الإيمانية الراذخة في قلوب معظم اللبنانيين هي التي اسست الخلفية الصالحة لاطلاق سلسلة من الحوارات الهادئة منذ سنة 2006. والتي بدأت بالواقع قبل سنوات في استراليا بين مسؤولين في المردة والقوات اللبنانية بقيادة الشيخ جو عريضة.

لكن للأسف لم يبادر سيادة المطران حتي آنذاك الى تدعيم هذا الانفتاح وتثبيت مساعي التقارب بين الفريقين، وهذا خطأ عوّض عنه سيادة المطران انطوان شربل طربيه، بعد ان لعب دور ساعي الخير بين بنشعي ومعراب.

ولا بد هنا من التنويه بدور «الجنديين المجهولين» الوزير السابق يوسف سعادة، وطوني الشدياق، وكلاهما يتميّز بعمق الإيمان وروح الحوار والتواضع والوعي الكامل لخلفيات الاحداث والرغبة الصادقة بتخطي الماضي واطلاق صفحة جديدة بين بشري مدينة المقدمين واهدن موطن كرم والبطريرك  الدويهي والرئيس سليمان فرنجية الذي اطلق شعار «عفا الله عما مضى…« وعمل بموجبه.

< سمير وسليمان

لا يختلف اثنان ان الوزير سليمان فرنجية المعني مباشرة وسمير جعجع وهو معني بشكل غير مباشر بحادثة اهدن، ورغم اختلافهما في النظرة السياسية للأمور يتمتعان بقدر كبير من المصداقية.

انهما يلتزمان بتعهداتهما، صريحان في توحيد مواقفهما، مصممان على اعادة توحيد الصف المسيحي، خاصة بعد ان شارف الوطن على الانهيار الكامل وبدا ان «العهد القوي» لم يتمكن حتى هذه الساعة من معالجة مشاكل الوطن المتراكمة ومن استعادة هيبة الدولة ووضع حد للفساد الذي يطبع المؤسسات وعمل الوزارات والدوائر.

وكما ضحت القوات اللبنانية وبايعت العماد عون من اجل انقاذ الجمهورية، صمم سليمان فرنجية على التضحية بمشاعر الثائر والمحاسبة وتغليب المحبة على الكراهية والمسامحة والغفران على المعاقبة، الأمر الذي شاركته فيه كل العائلات الزغرتاوية، خاصة عائلات الضحايا.. جميعهم ادركوا ان المارونية هي اهم من العداوة وان المغفرة هي اقوى من المعاقبة، وان الانسان يبقى انساناً وان اخطأ، وان حكم التاريخ هو أشد وطأة من احكام البشر.

فالتاريخ يشهد كما قال العلامة الأب يوسف يمين ان احداً لم يغفر في تاريخ المسيحية وتاريخ لبنان والشرق الاوسط وعن معرفة تامة، كما فعل سليمان فرنجية، والغفران هو من صلب الدين المسيحي، لأن المسيحية هي حب وعطاء غفران ومسامحة…»

تحميل سمير جعجع مسؤولية الجرائم التي وقعت خلال الحرب ومنها حادثة اهدن، فيه اجحاف بحق قائد القوات اللبنانية وتزوير للحقائق التاريخية.. وفيما يتربّع زعماء الميليشيات على كراسي الحكم، ليس مقبولاً ان يسعى سمير جعجع  الى تبييض سجله من جرائم أُلصقت به، بعد ان اثبت انه الرقم الصعب الذي لا يفاوض على قناعاته الوطنية ولا يتاجر بمقدسات الوطن. وان قضاءه احدى عشر عاماً في السجن اكبر دليل على ذلك. فهو رفض الخضوع للوصاية السورية، كما رفض الرحيل عن الوطن وتعريض حياة آلاف الشباب القواتيين للملاحقات المجحفة ومطاردتهم التعسفية. لذا قرر البقاء والمواجهة معهم وتحمل الاضطهاد والإساءة والظلم كأي عنصر قواتي آخر. هذا ما منحه مقداراً كبيراً من المصداقية، لأنه «لن يصح الا الصحيح، ولو بعد حين…»

< التفاهم الوجداني

تفاهم القوات والمردة يختلف عن تفاهمات سابقة اخرى، انه تفاهم نابع عن قناعة رسمها رجلان صادقان في وعودهما، ويقف وراءه مجتمع مسيحي متعطش لهذه المصالحة ويدعم بوعي وصدق ورغبة عارمة طي صفحة الماضي.

هذا المجتمع الذي يبدأ في وادي القديسين وما يرمز اليه من تاريخ ومعاناة ومناعة وتمسّك بالإيمان، لا يقتصر على المنطقة وحدها، بل يشمل لبنان بأسره وجميع لبنانيي الانتشار أينما وجدوا حول العالم.

لذا لا حاجة للتوقيع على ورقة معاهدة يوقع عليها عاطفياً وايمانياً جميع مسيحيي الانتشار والداخل ويشهد على مصداقيتها كل اللبنانيين.لا احد يعلم مستقبل لبنان في هذه الظروف الضاغطة اقليمياً وداخلياً. فالعهد القوي يبدو حتى الآن وكأنه في ايامه الاولى رغم مرور سنتين عليه.

فلا احد يعلم ما يخبئ يوم غد لنا. لكننا نعلم حق العلم انه يتوجب علينا ان نكف العيش في الماضي وان نتوقف عن الحقد والغضب، وان نتحرّر من الأسر الذي فرضته علينا مؤامرات واخطاء الماضي.

علينا ان نسامح من اخطأوا الينا، دون ان نبالي بردود فعل من لا يضمرون الخير لنا وللمجتمع والوطن. فالحق هو اقوى من الكراهية المدمرة.

والمسامحة هي انبل من الثأر،

والمغفرة هي ميزة الشجعان،

والمصالحة هي شرط ملزم لإعادة بناء المجتمع والوطن.

المصالحة مع الآخرين تبدأ اولاً بالمصالحة مع الذات. ومن يتصالح مع نفسه هو انسان حر وسيد الحكماء، لأنه صادق مع وجدانه، يدرك بعمق اخطاء الماضي، وهو بالتالي حر وقادر على العمل والسير نحو المستقبل، ليس من باب المزايدة او المتاجرة او المصلحة الظرفية، بل لمعرفته انه « لو غرقت السفينة، فإنها ستغرق الجميع معها». ولبنان الذي طعناه على مدى عقود هو اهم من أب او ام او اخ او رفيق، وهو اكبر من ابنائه، لأنهم مسؤولون عن حماية هذه الأمانة، اعني «وقف الرب على الارض».

فطوبى لصانعي السلام، فأبناء الله يدعون.

pierre@eltelegraph.com