… ومن الآيات الكريمة التي تعظم النبي الخاتم وترفع من شأنه قوله تعالى: «ألَمْ نشرح لك صدرك. ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك…» سورة ألم نشرح 1-4
المقصود من، «الصدر» هنا هو الروح والفكر، وهذه الكناية ترد كثيراً والمقصود من «الشرح» هو بسط الروح وارتفاع النكر واتساع العقل البشري، لأن تقبل الحق يستدعي التنازل عن الكثير من المصالح الشخصية مما لا يقدر عليه إلا ذوو الأرواح العالية والأفكار السامية.
وشرح الصدر يعتبر من نعم الله التي لا تصل العقول الى كنه جلالتها وضيق الصدر من عقاب الله. وقد ذكر تعالى نعمة «شرح الصدر» مخاطباً النبي الكريم «الم نشرح لك صدرك…».
ويتضح هذا اكثر عند دراسة الأشخاص، فأنت ترى بعضهم على درجة من سعة الصدر، بحيث إنهم قادرون على استيعاب كل حقيقة مهما كبرت، وعلى العكس منهم نرى صدر بعضهم من الضيق بحيث لا تكاد تنفذ اليها اية حقيقة، فأفق رؤيتهم الفكرية محدود جداً ومقتصر على الحياة اليومية… وقد سئل النبي «ص» عن معنى شرح الصدر فقال:
نور يقذفه الله في قلب من يشاء، فينشرح له صدره وينفسح… فحال المعاندين وفاقدي الإيمان هي الضيق الشديد، ففكرهم قاصر وروحهم ضيّقة صغيرة لا يتنازلون في حياتهم عن شيء…
– أما بخصوص شرح صدر النبي صلى الله عليه وآله – فهو كناية عن التوسعة في فكره وروحه، ولهذه التوسعة مفهوم واسع، تشمل السعة العلمية له عن طريق الوحي والرسالة، وتشمل ايضاً توسعة قدرته في تحمله وإستقامته امام تعنت الأعداء والمعارضين…
ولذلك حين أُمر موسى بن عمران «ع» بدعوة فرعون: «اذهب الى فرعون إنه طغى» دعا ربه وقال: «رب اشرح لي صدري ويسّر لي امري»… فلا يمكن أساساً لقائد كبير ان يجابه العقبات دون سعة صدر. ومن كانت رسالته أعظم – كرسالة النبي الأكرم -كانت الضرورة لشرح صدره أكبر… كي لا تزعزعه العواصف ولا تثني عزمه الصعاب، ولا تبعث في نفسه اليأس مكائد الأعداء وهذه كانت اعظم هبة إلهية لرسول رب العالمين… …
والمتمعن في دراسة حياة الرسول «ص» وما فيها من مظاهر، تدل على شرح عظيم لصدره تجاه الصعاب والمشاق، يدرك بما لا يقبل الشك أن الأمر لم يتأت لرسول الله بشكل عادي، بل إنه حتماً تأييد إلهي رباني. وقيل ان شرح الصدر إشارة لحادثة واجهت الرسول في طفولته حين نزلت عليه الملائكة، فشقت صدره واخرجت قلبه وغسلته وملأته علماً وحكمة ورأفة ورحمة… / الامثل في تفسير كتاب الله المنزل . ج20
وقد ذكر الشيخ مكارم في تفسير المتقدم – أن رواية شق الصدر وإخراج القلب – ذكرها البخاري والترمذي والنسائي ايضاً في قصة المعراج.
وقال: المقصود طبعاً من القلب في هذه الرواية ليس القلب الجسماني، بل إنه كناية وإشارة الى الإمداد الالهي من الجانب الروحي والى تقوية إرادة النبي وتطهيره من كل نقص خلقي ودسوسة شيطانية… وبسعة الصدر هذه اجتاز الرسول «ص» العقبات والحواجز والصعاب على أفضل وجه، وأدى رسالته خير أداء…
ويسجل البعض هنا ملاحظة حول الرواية بعيداً عن الكناية والتأويل فالنبوة والعصمة والطهارة والصبر في البأساء والضراء و… الخ… لا تتم بعملية جراحية … فالله عليم وخبير.
قال تعالى: «ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير». الملك 14
وقال ايضاً: «الله اعلم حيث يجعل رسالته» الأنعام 124
وذكر الشيخ فخر الرازي في تفسير الكبير حول شرح صدر النبي «ص» ان المراد من شرح الصدر ما يرجع الى المعرفة والطاعة -ثم ذكروا فيه وجوهاً:
أحدها: أنه – صلى الله عليه وآله – لما بعث الى الجن والأنس، كان يضيق صدره عن منازعة الجن والانس والبراءة من كل عابد ومعبود سوى الله. فآتاه الله من آياته ما اتسع لكل ما حمله وصغر عنده كل شيء احتمله من المشاق وذلك بأن أخرج عن قلبه جميع الهموم وما ترك فيه إلا هذا الهم الواحد…
فلا يبالي بما يتوجه إليه من إيذائهم، حتى صاروا في عينه دون الذباب، لم يجبن خوفاً من وعيدهم، ولم يمل الى مالهم…
ثانيها: انه انفتح صدره حتى انه كان يتسع لجميع المهمات، لا يقلق ولا يضجر ولا يتغير، بل هو في حالتي البؤس والفرح منشرح الصدر مشتغل بأداء ما كلف به، والشرح التوسعة ومعناه الإراحة من الهموم، والعرب تسمي الغم والهم ضيق صدر كقوله تعالى: «ولقد نعلم أنك يضيق صدرك» الحِجر 97.
… وقال الشيخ خليل ياسين: ان شرح الصدر يتم بأحد ثلاثة:
الأول: بقوة الأدلة التي نصبها الله سبحانه…
الثاني: بالألطاف التي تتجدد حالاً بعد حال، كما قال تعالى: والذين اهتدوا زادهم هدى» سورة محمد 17
الثالث: بتوكيد الأدلة وحل الشبهة…
فالله سبحانه عظّم نبيه الخاتم بشرح صدره إذ استوعب حقائق الوجود بالفيض الالهي وعظّمه أيضاً بوضع وزره، ورفع ذكره.
قال تعالى: «ووضعنا عنك وزرك. الذي أنقض ظهرك. ورفعنا لك ذكرك.» سورة ألم نشرح.
الوزر بمعنى الثقل وفيه الوزير الذي يحمل أعباء الادلة وسميت الذنوب وزراً لأنها تثقل كاهل صاحبها… والكلمة تستعمل ايضاً في نكث العهود وعدم الالتزام بها، فيقال نقض عهده.
والآية تقول إذن، الله سبحانه وضع عنك أيها النبي ذلك الحمل القاصم للظهر. وأي حمل وضعه الله عن نبيه؟
القرائن في الآيات تدل على أنه مشاكل والنبوة والدعوة الى التوحيد وتطهير المجتمع من ألوان الفساد، وليس نبي الإسلام وحده، بل كل الانبياء في بداية الدعوة واجهوا مثل هذه المشاكل الكبرى، وتغلبوا عليها بالامداد الالهي وحده، مع فارق في الظروف، فبيئة الدعوة الاسلامية كانت ذات عقبات أكبر. وقيل ايضاً: ان الوزر يعني ثقل الوحي في بداية نزوله.
وقيل: انه عناد المشركين وتعنتهم وأذاهم… / تفسير الأمثل ج20 فلا ذهب للنبي «ص» ولا معصية وكذلك فلا ذنوب للأنبياء عليهم السلام فإننا نعتقد بعصمتهم ونزاهتهم، وكل ما يفهمه البعض انه ذنب، فهو مفسر وله توجيه وتأويل.
فالوزر الذي وضعه الله سبحانه عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وآله هو الأمور المستعصية والمخاطر وما كان يلاقيه من قريش والمشركين فنصره وأعزه ورفع ذكره.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله في تفسير قوله تعالى: «ورفعنا لك ذكرك». قال: قال لي جبرائيل – عليه السلام – قال الله عزّ وجلّ: «إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي».
فأي فخر أكبر من هذا؟ وأي منزلة أسمى من هذه المنزلة… قال الفخر الرازي في تفسيره: وأعلم أن – رفع الذكر – عام في كل ما ذكروه من النبوة، وشهرته في الارض والسموات، إسمه مكتوب على العرش، وأنه يذكر معه في الشهادة والتشهد، وأنه تعالى ذكره في الكتب المتقدمة، وانتشار ذكره في الآفاق، وأنه ختمت به النبوة، وإنه يذكر في الخطب والآذان، ومفاتيح الرسائل، وعند الختم، وجعل ذكره في القرآن مقروناً بذكره «والله ورسوله احق أن يرضوه» التوبة 62.
«ومن يطع الله ورسوله» النساء 13
«وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول» النور 54
ويناديه بإسم الرسول والنبي حين ينادي غيره بالاسم… وأيضاً جعله في القلوب بحيث يستطيبون ذكره وهو معنى قوله تعالى:
«سيجعل لهم الرحمن وداً» مريم 96. كأنه تعالى يقول: أملأ العالم من اتبعاك كلهم يثنون عليك ويصلون عليك ويحفظون سنتك، بل ما من فرضية من فرائض الصلاة إلا ومعها سنة – من النبي – فهم يمتثلون في الفريضة أمري وفي السنة أمرك، وجعلت طاعتك طاعتي، وبيعتك بيعتي «ومن يطع الرسول فقد أطاع الله» النساء 80
«ان الذين يبايعونك إنما يبايعون الله». الفتح 10.
لا تأنف السلاطين من اتباعك… … فالقراء يحفظون ألفاظ منشورك والمفسرون يفسرون معاني فرقانك، والوعاظ يبلغون وعظك، بل العلماء والسلاطين يصلون الى خدمتك ويسلمون من وراء الباب عليك، ويمسحون وجوههم بتراب روضتك، ويرجون شفاعتك، فشرفك باقٍ الى يوم القيامة…
قال شاعر النبي «ص» حسان بن ثابت: وضمَّ الإله إسم النبي إلى إسمه / إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشقَّ له من إسمه ليجلّه / فذو العرش محمود وهذا محمد
اللهم صلِ على محمد وآل محمد… للبحث تتمة.