بقلم هاني الترك OAM

سوف تعيد استراليا كتابة التاريخ البريطاني لاستراليين اعدما منذ 116 عاماً هما هاريس مورانت وبيتر هانكوك.. فسيقدم النائب الكوينزلندي سكوت باشهولز اليوم الجمعة للبرلمان الفيدرالي مشروع قرار للتصويت عليه يقضي بأن اعدامهما  والذي كان عام 1902 قاسياً وجائراً. والمشروع يطمح ان يُقر انه كان هناك عجز كبير في التعامل بقضية اعدامهما ويُعبّر عن الأسف العميق ان الرجلين قد خضعا لإجراءات محاكمة غير عادلة منافية للقانون.

وقد حدثت الواقعة منذ 116 عاماً ولا تزال موضع بحث ودراسة بحثاً عن العدالة مع ان المحاكمة جرت في المحكمة العسكرية التي يقع فيها الاخطاء في تطبيق القانون وتختلف عن المحاكم المدنية.

ففي عام 1898 اندلعت حرب البوير في جنوب افريقيا بين القوات الهولندية والقوات البريطانية التي كانت تسيطر على جنوب افريقيا.. وكان البريطانيون يعاملون الهولنديين بقسوة وصرامة حتى انتقل المزارعون الهولنديون الى منطقة اخرى تسمى ترانسفال.. وعثر في قريتهم على الذهب والالماظ فطمعت الادارة البريطانية بالارض ونشبت الحرب بين الطرفين.. وكانت القوات البريطانية  جيشاً منظماً في حين ان القوات الهولندية كانت تقاوم في حرب كعصابات الغوريلا.

كان قائد القوات البريطانية في جنوب افريقيا في ذلك الزمن كيتشنر وهو الذي كان قائد الجيش البريطاني ايضاً في مصر وفي السودان. قاد معارك القوات البريطانية ضد قوات الجيش المهدي في السودان في نهاية القرن التاسع عشر بعد ان هزمه المهدي ولكن كيتشنر عاد وخاض الحرب ضد جيش المهدي وانتصرت القوات البريطانية في ذلك الزمن.

ومن المعروف تاريخياً ان كيتشنر كان قائداً عسكرياً قاسياً الى درجة وُصف بالسفاح.. فتقلد عدة مراكز قيادية عسكرية قبل الحرب العالمية الاولى.. وخاض الحروب في اوروبا والهند ومصر والسودان وفي جنوب افريقيا في حرب البوير.. ارسلت استراليا جيشها بناء على اوامر بريطانيا لتشارك في الحرب تحت القيادة العسكرية لـ كيتشنر عام 1898 قبل ان تصبح استراليا وطناً فيدرالياً مستقلاً بدخول المستوطنات في الاتحاد الفيدرالي عام 1901.

ومن ضمن القوات الاسترالية التي ذهبت لحرب البوير هاريس مورانت وبيتر هانكوك وجورج ايطون.. وكان مورانت يسمى بـ The Breaker في استراليا وذلك على قدرته في توليف الخيل المتوحش وامتطائه.. وكانت القوات البريطانية في حاجة الى اشخاص لهم هذه الخبرات مثل مورانت لمواجهة حرب العصابات في جنوب افريقيا التي كانت تشنها القوات الهولندية.. لم يكن مورانت سعيداً في استراليا وكان من المعروف انه يقترض المال ولا يرجعه فاراد الخروج من استراليا هرباً من دفع ديونه التي تراكمت عليه ومن ثم تطوع للالتحاق بالقوات البريطانية في حرب البوير.

كان لـ مورانت صديق عزيز وعديل بريطاني اسمه الكابتن بيرسي هانت اذ كان مخطوباً لشقيقة زوجة هانت.. واثناء مشاركة الكابتن هانت في حرب البوير اصيب في احدى المعارك وعذبته القوات الهولندية وشوهت جسده وقتلته.. وانتاب مورانت الغضب الشديد واراد الانتقام فأقسم اليمين بالثأر من قوات البوير.. فقام مع هانكوك بقتل ثماني من قوات البوير ارادوا الاستسلام كأسرى حرب.. واتهما ايضاً بقتل رجل الماني كان في ارسالية دينية مسيحية في جنوب افريقيا.. ولكن مورانت وهانكوك نفيا التهمة مع ان احد الشهود قال ان هانكوك قد قتله.. يقول المؤلف والمؤرخ الافريقي شارلز لي انه بلغ عدد ضحايا مورانت 30 شخصاً.. والذين قدموا الشكوى لقيادة القوات البريطانية في جنوب افريقيا هم الذين كانوا تحت امرة مورانت استناداً الى انه قد قتل الأسرى بدون تلقي الأوامر من القيادة.

وبعد قتلهم اعتقلت القوات البريطانية مورانت وهانكوك وإيطون ومثلوا امام المحكمة العسكرية بتهمة قتل اسرى حرب وهي جريمة دولية في الحروب واعتبرت جرائم حرب.. والمحاكمة كانت سريعة مقتضبة وقصيرة.. فصدر الحكم بإعدام مورانت وهانكوك وسجن إيطون.. اما كيتشنر فكان خارج جنوب افريقيا ولم يدل بشهادته لأن المحكمة حكمت بالاعدام على مورانت وهانكوك استناداً الى عدم تلقيهما الاوامر بقتل الاسرى من القيادة.

ان النقطة القانونية الهامة في المحاكمة ان كيتشنر قبل ان يغادر جنوب افريقيا قال انه لا يريد اي اسرى حرب مما يعني قتل الأسرى.. غير ان القائد بالوكالة بعد مغادرة كيتشنر كان الكولونيل هاميلتون الذي قال للمحكمة انه ليس من المعقول ان يكون كيتشنر قد اصدر تلك الاوامر ولا توجد ادلة تثبت ذلك.. وكان المؤرخ شارلز قد قال : «لا يوجد لدي ادنى شك بأن كيتشنر هو الذي اصدر الأوامر لـ مورانت وهانكوك وإيطون وان هاميلتون قد تستّر على كيتشنر».

غير ان كيتشنر كان قد اصدر الأوامر لأسباب اخرى هي ان الملكة فيكتوريا قد اخبرت كيتشنر باتخاذ اي اجراء ضد قتل رجل الدين الالماني اذا كان ابن عم قيصر المانيا وليهالم الذي قدم شكوى الى الملكة فيكتوريا ومن ثم قررت المحكمة العسكرية اعدام مورانت وهانكوك وعقاب إيطون بالسجن.. وصدر الحكم.

وحين وقفا اما فرقة تنفيذ الحكم قال مورانت: «اطلقوا النار ايها اللقطاء» وكانت تلك الجملة آخر كلمات نطق بها.. ودفن مورانت وهانكوك في ارض جنوب افريقيا.. اما إيطون فقد امضى عقوبة السجن في بريطانيا.

بعد ثلاث سنوات من الاتحاد الفيدرالي الاسترالي وقع 80،000 مواطن من استراليا التي كان عدد سكانها 3 ملايين نسمة عريضة رفعت الى الملك ادوارد البريطاني تطالب بإطلاق سراح إيطون من السجون البريطانية واصدار العفو عنه حتى ان ونستون تشرشل طلب اطلاق سراحه حيث اطلق سراحه بالفعل ومات عام 1942.. وكتب اثناء حياته قصته في كتاب وانتج عدة افلام عن المأساة.

المحامي والكوماندور السابق في القوات البحرية الاسترالية جيمس انكليز احيا القضية ثانية وامضى 4 سنوات ساعياً وراء تبرئة الجنود الاستراليين الثلاثة من التهمة.. وحصل على نسخة من العريضة التي قدمت للملك ادوارد في ذلك الزمن والتي يحتفط  بها شقيق إيطون واسمه ارنست إيطون.. وتم تحديد  مكان العريضة في مكتب الارشيف الوطني البريطاني مع الرسالة التي ارسلها ارنست إيطون الى الملك ادوارد.

ويعتقد انكليز مع اللواء جيمس تنترفيلد من نيو ساوث ويلز ان هناك اخطاء كثيرة في الاعتقال، التحقيق، المحاكمة واصدار الحكم وتنفيذه في حق مورانت وهانكوك.

وعام 2009 رفع انكليز عريضتين الاولى لمجلس النواب في استراليا والثانية للملكة اليزابيت مطالباً بإقامة لجنة تحقيق.. وقد رفضت العريضة في المملكة المتحدة.. وكان يتوقع انكليز ان تقيم الحكومة البريطانية لجنة تحقيق ثانية من اجل مراجعة المحاكمة بعد ان يحصل المحامي انكليز على نسخة من مخطوطة المحاكمة العسكرية من ارشيف الجيش البريطاني مطالباً بتبرئة الجنود الاستراليين الثلاثة من التهمة .. وان ترسل بقايا جثتي مورانت وهانكوك الى استراليا لإعادة دفنهما في جنازة عسكرية ومنح المتحدرين من سلف الجنود الثلاثة ميداليات تقديرية.. وتحفر اسماؤهم على ضريح ضحايا الحروب في كانبرا.. لأنه من ضمن اللائحة بالجنود الاستراليين الذين لقوا حتفهم في حرب البوير لا يوجد ما يشير الى ان مورانت وهانكوك كضحايا الحرب لأنهم اعدموا كمجرمي حرب وهما الوحيدان في تاريخ استراليا اللذين اعتبرا مجرمي حرب وتم اعدامهما.

ويقول النائب  باشهولز ان مشروع القرار  الذي يقدمه للبرلمان اليوم يعترف بالمعاناة النفسية التي سببتها تلك الحادثة لأولاد واحفاد مورانت وهانكوك وإيطون.. ويقدم الأسف العميق الذي لحق بهم.

لذلك سوف يحضر 12 شخصاً منهم  اليوم عرض مشروع القرار على البرلمان حتى يُبت بالقضية بشكل حاسم.

غير انه في تقديري – وقد اكون مخطئاً – ان مشروع القرار لن ينجح في اقراره على التصويت عليه .. واذا نجح من الأرجح ان تكون الخطوة التي تليها هي رفع القضية الى الحكومة البريطانية للبت فيها من جديد واصدار العفو على الجنود الثلاثة.. ولكن من الأرجح  – في تقديري – ان الحكومة البريطانية لن تُراجع النظر فيها.  لأن الحادثة هي جزء هام من التاريخ.. وللكننا لا نستطيع تغيير التاريخ .. انما التعلّم منه من اجل عدم الوقوع في الاخطاء القانونية التي تجري في المستقبل.

والأن وقد مضى على هذه الحادثة 116 عاماً ولو حتى كان الجنود الثلاثة ابرياء.. هل يتغير شيئاً؟.. فلن يتمكن احد من ارجاع الميت حياً مرة اخرى.. فإن الناظر الى القضية يرى انها تمثل السيادة البريطانية على المستوطنات في ذلك الزمن.. او الذي يريد الاعتقاد بأسطورة مورانت وهانكوك كبطلين شعبيين يمكن الاستمرار في ذلك الاعتقاد.

فإن جيم انكليز مدفوع من اجل ارضاء المتحدرين من مورانت وواحد من الثلاثة الذين صدر ونفذ الحكم فيه له شخص متحدّر مباشرة منه.

بيتر هانكوك البالغ من العمر 50 عاماً والذي يعيش في الشواطئ الشمالية لسيدني وهو حفيد هانكوك يقول: «من الواضح جلياً انه لم يتم اتباع مجرى العدالة القانونية وسوف نعرف الحقيقة ويعرفها العالم ولكن لن تغير من حياته مع انها قد تصحح الخطأ.

ان موارنت وهانكوك وإيطون هم الاستراليون الوحيدون عبر تاريخ استراليا الذين يعتبرون مجرمي حرب وربما حان الوقت لتبرئتهم من الجرائم.. بهدف تحقيق العدالة حتى ولو بعد انقضاء 116 عاماً.

فربما كانوا مظلومين من الناحية القضائية .. ولم يحصلوا على العدالة في كوكب الارض.. فإنهم الآن في السماء وهي التي فيها العدالة المطلقة.

هل اعدام ميت عدالة؟

التاريخ يستهويني لأنه يكمن فيه تجارب واحداث البشرية وهو خير معلم.. ومن خلال اطلاعي المستفيض على القانون الانكليزي ودراستي في القانون الاسترالي ومن خلال عملي المتخصص في مكتبات القانون توصلت الى حقيقة ثابتة بأن القانون الانكليزي في نصوصه عادل ودقيق.. وفي تطبيقه ينحو الى العدالة مع ان العدالة المطلقة غير موجودة على كوكب الارض ولكن في الحياة الابدية.

اثناء عملي كمدير لمكتبة وزير الادعاء العام وجدت ضمن الكتب المكدسة فيها كتاب مؤلف من جزئين يحمل عنوان : «احكام المحكمة العليا لفلسطين» اثناء الانتداب البريطاني الذي بدأ مع انتهاء الحرب العالمية الاولى عام 1918 وحتى نهاية الانتداب وقيام دولة اسرائيل عام 1948 اي عام النكبة.

واثناء عملي في المحكمة العليا لنيو ساوث ويلز لمدة سنوات طويلة كنت اراجع كتب اهم مؤلف في تاريخ القانون البريطاني الذي يكمن فيه دعائم القانون البريطاني بأكمله.. والمُؤلف من عدة اجزاء ويحمل عنوان : «مبادئ القانون الانكليزي لمؤلفه ستون» الصادر في القرن الثامن عشر» ويقول في مقدمة كل جزء فيه :« دع  الرجل الانكليزي الذي يكتشف العالم ان يحمل على كتفه حقيبته من القانون والحرية».

واذكر من خلال قراءتي للتاريخ البريطاني حادثة غير عادية.. ففي القرن السابع عشر وقعت في انكلترا حرب اهلية بسبب الخلاف بين الملك تشارلز وقائد الجيش البريطاني اوليفر كرامويل وذلك بعد ان انشقت انكلترا عن الفاتيكان.. واعتنق الملك تشارلز البروتستانتينية بدلاً من الكاثوليكية بسبب رفض البابا الموافقة على طلاق الملك هنري الثامن لأن القانون الكاثوليكي لا يسمح بالطلاق .. واصبحت البروتستانتينية في انكلترا تسمى كنيسة انكلترا.. والملك هو رأس الدولة الى جانب كونه رأس الكنيسة.

قاد اللواء كرامويل التمرّد العسكري ضد الملك تشارلز ولكن جيوش الملك حفرت بؤرة لـ كرامويل ودُفن جسده في التربة.

وبعد ثلاثة ايام من استقرار الملك قرّر محاكمة كرامويل الميت فنبش قبره وانتشل جثته ووضعت في قاعة المحكمة .. وتمت محاكمته  اذ وجهت النيابة العامة في حقه تهمة الخيانة العظمى.. وصدر الحكم عليه وتم اعدامه وهو ميت ودُفن ثانية.

انها محاولة لتحقيق العدالة بتطبيق قانون الاعدام الذي كان سارياً في بريطانيا في القرن السابع عشر.. ولكنها عدالة متطرفة .. بل غير عادلة .. طبقها رأس الكنيسة الانكليزية الملك تشارلز.. لا تقرّها الديانة المسيحية.

وطبعاً هذه ممارسات غير عادلة في عالمنا المعاصر.. وغير انسانية .. ومنافية للديانات السماوية.