جاءنا مايلي: وكأنها استراحة قصيرة للتأمل في محطات من خدمة كهنوتية طويلة مجبولة بالتعب وموسومة بالحب! «هناك ثابتة واحدة لا تتغير، وهي حبُّ الله وحبُّ ربنا يسوع المسيح لي ولكل شخص منا، وهو الحبُّ إياه أمس، اليوم وإلى الأبد». هذا بعضٌ من التأمل بـ 25 عاماً من رسالة كهنوتية فاضت بالكثير وتعِد بالأكثر، و5 سنوات من قيادة أسقفية تحمل الكثير من الرجاء.
هذا التأمل كان محور عظة ألقاها سيادة المطران أنطوان شربل طربيه في القداس الإلهي الذي نظمته كاتدرائية سيدة لبنان في هاريس بارك مساء السبت الماضي، احتفالاً باليوبيل الفضي لسيامته كاهناً وبالذكرى السنوية الخامسة لتعيينه مطراناً على الأبرشية المارونية في أستراليا. الكاتدرائية غصت بالمحتفلين، يتقدمهم لفيف من الكهنة والراهبات ومؤمنون قدموا للمشاركة في الاحتفال الذي تزامن مع اختتام الشهر المريمي.
في العظة محطات لم يغب عنها الوجدان، فالبداية كانت مع ذكريات يوم السيامة. للوجدان حقه، وكذلك الحنين. ذكريات تطيّبها المحبة ويعطّرها الفرح، فرح سيامته مع 10 رفاق لا تزال صورهم حاضرة بقوة في البال. كانت لحظة استذكار، يختلج لها القلب، لم ينسَ فيها المطران طربيه وجوه الأصدقاء والأقارب والأجداد والأهل والإخوة والأخوات وفخرهم به في تلك اللحظة. كانوا جميعاً هناك يتقدمهم يوسف وماري، والده ووالدته. هل هي صدفة أن يكون اسمهما على غرار اسميْ ركنيْ عائلة الناصرة؟ طوبى لمن ينشأ ويترعرع في كنف يوسف ومريم وظلالهما!
وإذا كان للوجدان حقه، فللروح أشواقها، ومن هذه الأشواق رجاء الكنيسة، وعلى هذا الرجاء الكثير من التعويل. مصدر هذا الرجاء فهم الرسالة والعمل بها. «في حياتي الكهنوتية ثلاث مهمات» قال المطران طربيه في عظة يوبيليته. «الأولى أن أقدّس نفسي ورعيتي»… «الثانية أن أبشر بالكلمة»… و»الثالثة أن أدير الكنيسة». والمهمة الثالثة تتم «بالتعاون مع الخبراء والعلمانيين». وهذا التعاون أساسي لأن لكل شخص رسالته، ورسالة الكنيسة العماد والتلمذة من أجل نشر الكلمة. والتتلمذ ليسوع لا يقف عند حد التعلّم عنه ومنه «بل أن نلتقي به، أن نعرفه، ليس فقط لكي نؤمن به، بل لنحبَّه ولنعرف كم نحن محبوبون منه».
كلمات مجبولة بالحب ومحبوكة بالروح تشكل امتداداً لـ «ثقافة العنصرة» التي أطلقها المطران طربيه قبل يوبيليته بأسبوع واحد في رسالة وجهها إلى أبرشيته، مؤكداً فيها أن تجدد الكنيسة لا يأتي «من إدراة جيدة وتخطيط فعال وبرامج أفضل» فحسب، بل عن طريق الانفتاح في «حياتنا على إلهامات الروح القدس وعبر الصلاة اليومية». وقد استوحى المطران طربيه «ثقافة العنصرة» من نتائج المجمع الأبرشي الماروني الذي التأم في جولة ثانية وعلى مدى ثلاثة أيام في نيسان الماضي، على أن يعلن عن مقرراته وتوصياته في 9 شباط 2019، بالتزامن مع عيد شفيع الطائفة القديس مارون. «الهدف الأسمى لمجمعنا هو أن ننقل هذه الدينامية الجديدة إلى مجتمعنا الماروني، لكي نساهم في الرسالة الرئيسية للكنيسة، ألا وهي الأنجلة والتلمذة»، كما قال المطران طربيه في رسالته «ثقافة العنصرة».
والمجمع الأبرشي هو النقطة الأخيرة من خطة مؤلفة من 7 أولويات وضعها المطران طربيه بعد سنة في أسقفيته متعهداً بتنفيذها خلال 7 سنوات. وقد تحقق من هذه الخطة الكثير، بما فيها إطلاق الدعوات الكهنوتية والرهبانية ورعايتها. وتشكل الدعوات أولى نقاط الخطة السباعية، وقد سام المطران طربيه أول كاهن خلال أسقفيته، داني نوح، وهو أول متزوج يُسام كاهناً في أستراليا.
على رغم هذه الإنجازات، يبدو وكأن العمل لا يزال في بدايته، فمع ثقافة العنصرة، لا هدوء أو تخاذل! أما القوة فيستمدها المطران طربيه من فوق ومن القريب. هذا ما أكده في عظة يوبيليته: «قوتي تأتي من معرفتي أنني لست وحيداً» لأن «يد الله تحفظني وصلوات القديس شربل وشفاعته تدعمني، وأشعر أنني مبارك بصلوات الكثير من الناس في هذه الأبرشية وصلوات أهلي وإخوتي». هكذا يكون «فرحي عظيماً بـ 25 سنة من الكهنوت».
ويكتمل هذا الفرح بالشكران، فنحن «لا نختار عائلاتنا وقرانا، لكنني مبارك جداً لولادتي في عائلة تقية وفي قرية أعطت الكنيسة المارونية الكثير من الشهداء والأبطال، على رجاء أن تعطي أيضاً قديسين في المستقبل القريب: الناسك أنطونيوس طربيه والأباتي إغناطيوس داغر التنوري».
أمّا مسك الختام فتركه المطران طربيه لوالدة الإله «أمي الطاهرة مريم العذراء، أم الكنيسة». وهل من مسك أطيب منها أو من توقيع أسمى لعظة يوبيلية؟ «أطلب شفاعتها وصلواتها لي وأنا أخدم هذه الأبرشية الرائعة، وأطلبها لكم ولعيالكم». وكما «رافقت العذراء الكنيسة منذ يومها الأول، فلترافقنا جميعاً في رسالتنا ونحن ننطلق في التلمذة» ليسوع. بهذه التلمذة يتم اللقاء، لأن حولها «تتمحور كل الأوجه الرسولية للكنيسة».