Pierre-Semaanفي اواخر السبعينات، وبعد بداية الحرب اللبنانية، علق الفنان اللبناني زياد الرحباني على ما يجري في لبنان انه «فيلم اميركي طويل…»
لم يتوقف الناس عندئذ عند هذا الرأي، واعتبروه «ضرباً من ضروب» زياد الرحباني الفكاهية، اذ ان الناس في لبنان اعتادوا على استخدام كلمة «فيلم» بمعنى اكذوبة لا تصدق.
لم يسأل احد زياد الرحباني عن قصده، ولم يفكر معظم اللبنانيين بخلفيات هذه المقولة. فالبعض كان منهمكاً بنقل عائلته واحبابه الى مناطق آمنة، وآخرون انشغلوا بالمعارك الدائرة، بينما تفرغ عديدون لمتابعة مجرى الاعمال العسكرية واحصاء عدد القتلى والجرحى من هذا الفريق او ذاك.
بينما انشغل معظم سياسيو البلاد باجراء صفقات وعقد تفاهمات، وتخصصت مجموعات بسرقة المنازل المهجورة والمرافئ العامة.
كثيرون قاتلوا ايماناً بقضية ما، وكثر تاجروا واستفادوا وجنوا ثروات طائلة..  واصبح لدينا فريق جديد من «اثرياء الحرب» الذين رموا البندقية جانباً وانخرطوا باعمال الاستثمار حتى ما وراء الحدود…
ولكن لا يزال هذا الفيلم الاميركي في مقدمته. فمنذ حادثة عين الرمانة حتى اليوم وتدخل كل القوى الاقليمية، المجاورة والبعيدة، لم يفقه هؤلاء ان عدوى الحرب اللبنانية ستنتقل يوماً الى بلادهم. ولم يتمكن اللبنانيون لسبب ما من اقامة دولة ديمقراطية «عادلة وقوية» كما يردد معظم القيادات، والتيارات السياسية في لبنان، ارضاءً لطموحات اتباعهم…
ولا يزال «الفيلم الاميركي الطويل» يشهد فصولاً جديدة وتتشابك فيه العقد التي يصعب علاجها  بسبب تداخلها المركب.
آخر المشاهد اللبنانية، وطن معطل، بدون رئيس جمهورية، وبرلمان يجدد لنفسه، ومؤسسات يعبق فيها الفساد والمحسوبية وامارات يتحكم فيها بقايا زعامات الحرب لتنتهي البلد الى كومة زبالة، وغداً موجه جراثيم واوبئة وتلوث صحي وبيئي مع تهديدات من هنا وهنالك تطالب بالاصلاح والا.. التقسيم.
الوضع اللبناني، هو فصل واحد من فصول هذا الفيلم الطويل.
فمع انطلاق ثورة الربيع العربي من بيروت، بدأت فصول آخرى لمشاهد جديدة تبدل فيها الابطال واللاعبون دون ان تتغير الاهداف. فشهدت الجزائر خضات امنية، وتونس ارغمت رئيسها على الرحيل، وجرى اجتياح افغانستان وتدمير العراق وفرض فرز سكاني مذهبي فيها، واشتعلت سوريا وبدأ تدميرها بشكل مبرمج، وتجري اعادة ترسيم حدودها الداخلية وربما حدود الوطن العربي بكامله. وخلال تلك السنوات كانت اليمن تشهد ولادة قوتين متناحرتين واصبح الحوثيون يهددون السعودية ودول الجوار، واضطربت الاوضاع في الخليج العربي وتدخلت القوات السعودية في البحرين. وبرزت تحالفات عربية سنية الطابع لمواجهة الحوثيين وما يرمزون اليه من توسع ايراني في المنطقة.. ودخلت مصر على الخط السعودي بعد ان اعاد الحكم الجديد مصر الى حظيرة البلدان الديمقراطية (؟) . وقد تكون محاولة الاخوان المسلمين مقدمة لمجموعات اشد تطرفاً مثل تنظيم داعش واشباهه من التيارات المتطرفة التي تسعى الى اقامة الخلافة الاسلامية على حساب سائر الأقليات من المسلمين وغير المسلمين.
لكن غالباً ما تصطدم الطروحات الكبرى بمحدودية العناصر البشرية والمادية والعسكرية.. ألم يعتقد الفدائيون الفلسطينيون ان بامكانهم تحرير فلسطين بواسطة كلاشينكوف وآر بي جي واختطاف طائرة مدنية ؟؟
للأسف الشديد جرى تصفية المقاتلين الفلسطينيين في شوارع عمان والمدن اللبنانية، بعد ان ظنوا ان طريق فلسطين تمر عبر جونية وجبيل وغيرها من الطرقات غير المستقيمة…
هكذا يعيد التاريخ نفسه مع «داعش» و«النصرة» و«بوكو حرام» و«تنظيم الشباب» و«القاعدة» وما قد يظهر من تنظيمات مماثلة بعد ان تفقد الشعوب الأمل بطروحات هؤلاء وحبهم لسفك الدماء..
هذا الفيلم الاميركي الطويل، الذي قد يطول اكثر مما مضى يسير بخطوات متقنة ومدروسة للغاية ..
وعلى وقع دوي الانفجارات في الشوارع العربية وانتقال الحروب من عاصمة الى اخرى، لم يقصر العرب قط في عطاءاتهم الخيّرة. فتفتق الخيال العربي في انتاج اطنان من المسلسلات الرمضانية والموسمية. مسلسلات فيها من روايات التاريخ الغابر، والحب على انواعه واشكاله والطقش والفقش.. كل الخلفيات  الثقافية العربية انصبت على انتاجها من فائض اموال العرب.
وبينما كان الفيلم الاميركي الطويل ينفذ ميدانياً،  كانت الشعوب العربية تتابع المسلسلات العربية، والتركية بعد ان سئمت المكسيكية.
وفي حين يجري اعادة تثقيف الأمة العربية بالعقائد الخلافية، يجري تنوير العقل العربي المتفرج على انتاج الشركات النفطية من مسلسلات لا حول ولا قوة.
وبينما يدمر الوطن العربي دولة بعد دولة ومدينة تلو الاخرى، تتلهى الجماهير العربية بمتابعة المسلسلات وتتغزل النساء العربيات بابطالها من الرجال وتتدرب على محاكاة جميلات الشاشة الصغيرة.
حديث الناس اصبح كباب الحارة وعلاقات الحب على طريقة «الشيخ متولي» و«حريم السلطان».
كم يعيد التاريخ نفسه في الوطن العربي، والعرب لا يأخذون العبر..!!
لنتذكر معاً ما حدث في حرب حزيران 67 عندما كانت الطائرات الاسرائيلية تشن غارات على مصر والاردن وسوريا.. كانت السيدة ام كلثوم تسحر الامة العربية بكاملها وهي تؤدي حفلتها السنوية عبر اذاعة صوت العرب… مع اغنية «انت عمري».
ربما بدأ الفيلم الاميركي الطويل منذ ذلك الحين. واستفاق بعدها العرب ليدركوا اهمية المسلسلات العربية في تخدير العقول بعد غياب ام كلثوم.
انه حقاً مسلسل عربي طويل قد يكون جزءاً من الفيلم الاميركي الاطول.. !؟