السيد الحراني

عندما مَنحت الاكاديمية السويدية البيلاروسية سفيتلانا اليكسيفيتش جائزة نوبل للآداب، الشهر الماضي، فإنها ارادت ان تكافئ أعمالاً تستكشف آثار الكوارث الكبرى التي خلّفها القرن السوفييتي، ولا تزال ماثلة في العقول: الحرب العالمية الثانية، الستالينية، الحرب الأفغانية، تشيرنوبيل وتفكك الاتحاد السوفييتي.
الألم الروسي
تكتب اليكسيفيتش نوعاً ادبياً يمزج بين الرواية والتوثيق. ويستند بصورة رئيسية الى التحقيقات والشهادات. تكتب كما تقول للتعرف الى الجانب الانساني في الانسان، والألم موضوع رئيسي في كتابتها «فقد كان على الدوام (الألم) موضوع احاديثنا، حتى ان الغربيين بدوا لنا ساذجين لأنهم لا يتألمون مثلنا»، على ماتكتب نقلا عن امرأة روسية.
صحيفة لوموند الفرنسية أجرت مقابلة مطولة مع الكسيفيتش أثناء وجودها في باريس، تمحورت حول سياسات الرئيس بوتين والعالم الروسي وتماهيها مع ابطال كتبها. انتقدت الكاتبة بقسوة سياسات بوتين، ورسمت ملامح الحنين إلى العهد السوفييتي السائد في روسيا، كما تحدثت عن إخفاق التحول الديموقراطي وإحياء القومية التي فرضها الرئيس الروسي. ننشر منها بعض المقتطفات.
مستعدون لإطلاق النار
أنت تتحدثين عن «العالم الروسي». وهي أيضا عبارة يستخدمها فلاديمير بوتين لتسمية الفضاء الناطق باللغة الروسية خارج حدود روسيا، والذي يشعر بمسؤولية نحوه. ككاتبة بيلاروسية لغتك الأم هي الروسية، هل تعترفين بهذا المفهوم؟
– لدي ثلاثة جذور: اوكرانية، بيلاروسية وروسية. من دون الثقافة والفلسفة الروسية، ما كنت ما أنا عليه، وما كنت لأكتب «التضرع». «عالمي الروسي» مختلف جداً عن عالم بوتين. عالمي هو عالم شوستاكوفيتش، دوستويفسكي، تشيخوف، روستروبوفيتش، هيرزن.. أما بالنسبة للعالم الروسي الذي أطمح له، فإنه يتطلب المزيد من دعم الغرب لأوكرانيا.
لأن نجاح أوكرانيا، وتحولها، سيكونان أمضى حجة ضد خطاب بوتين. لطالما اعتبرت أن الحرب في الدونباس اعتداء عسكري ضد أوكرانيا، أي احتلال. ما من شك بأنه لولا بوتين ما كانت لتندلع حرب أهلية في ذلك الإقليم. يمكن الإتيان بخمس شاحنات محملة بنادق كلاشنيكوف الى بيلاروسا وسيحدث السيناريو نفسه: دائماً هناك أشخاص مستعدون لإطلاق النار.
حالة شبه جزيرة القرم هي أكثر تعقيداً. أعرف اشخاصاً بكوا فرحاً حين سمعوا خبر الحاق شبه الجزيرة بروسيا. لكن معرفة ما يفكر فيه الناس حقاً يتطلب إجراء انتخابات حرة. لم يحدث ذلك في القرم التي وصل اليها الروس وسيطروا على الارض ببساطة.
البطاطا وكراهية الليبراليين
هل يمكن الحديث عن «البوتينية»، اي عن أيديولوجية بوتينية؟
– في العام 1991، استيقظ الشعب الروسي في بلد جديد وغير مفهوم. لكنه التزم الصمت. لاحقاً، عندما أغلقت المصانع، واصبحت البطاطا قوت الناس الوحيد، بدأوا يكرهون «الليبراليين».
بعد عشرين عاماً من الصمت، جاء بوتين معلناً أن «أصدقاءنا الوحيدين هم الجيش والاساطيل الروسية». ذهبت أموال النفط والغاز الى الجيش. لم يقل ان حدا ادنى من الديموقراطية يجعلنا فخورين بأنفسنا. تحدث فقط عن روسيا العظمى، وعن المكانة التي كانت لها.
الا تزال هذه الأيديولوجية البوتينية تمارس تأثيرها في الانسان الروسي؟
– نعم. أنا لا اعرف الناس. لقد فقدت بعض أصدقائي. لم نعر اهتماما كافياً للأعراض الاولى. لكل هذه الأفلام المعروضة على شاشة التلفزيون، أفلام حول الشيكا (الشرطة السرية البلشفية)، حول ستالين.. وصل بهم الأمر الى حد تبرير تصرفات بيريا، رئيس جهاز الامن السوفييتي وجهاز الشرطة السرية في عهد ستالين (1938 – 1953).
في بيرم بروسيا، تحول متحف مخصّص لضحايا القمع الى متحف لعمال معسكرات الغولاغ، أي حراس معسكرات الاعتقال السيبيرية. لا تسقط الأشياء دائما من فوق من عند بوتين. بعض المبادرات تخرج من الأسفل، من الشعب.
يفاجئني الشباب على نحو خاص. يقودون سيارات فارهة. يرتدون ثياباً جميلة. لكنهم يبقون عبيدا. هذا الجيل من مرحلة ما بعد 1990 يدعم بوتين بقوة مستعيداً خطابه عن العار والمهانة والحاجة إلى زعيم قوي. كنا نتخيل أن شعبا مختلفا سيظهر، شعبا حرا.
سلوك الشبان وتصرفاتهم على هذا النحو مرده على الارجح الى ما يتداوله اهلهم أمامهم عن الطبابة المجانية والتعليم والسلّم الاجتماعي في العهد السوفييتي الراحل. ربما علينا الانتظار بعد. أو ربما استئصال عقلية العبيد هذه، تفرض أولاً أن يتغير اولئك الذين يحكموننا من فوق.
الناس المزدوجون
هل كنت تشعرين خلال الحقبة السوفييتية بأنك تنتمين إلى المجتمع الشيوعي؟ هل تشاركين شخصياتك، أبطالك، حنينهم لروح التضحية والإيثار واحتقار المال؟
– كنت أشعر بأنني على الهامش، ولكنه كان العالم الوحيد الذي أعرفه. الناس في ذلك الوقت كانوا مزدوجين. هم على استعداد للوقوف في الطابور لشراء مجموعات آنا أخماتوفا الشعرية. ولكنهم كانوا هم انفسهم وحراس المعتقلات يكتبون بيانات الاستنكار.
وددنا أن يكون الألم شيئاً بسيطا: بيريا وستالين. لكن الألم كان أكثر انتشارا ومنغرزاً في كل واحد منا. لهذا السبب أنا أكتب. ليس بغرض عرض فهرس للفظاعات لإرهاق القراء بل ليبحث كل واحد عن انسانيته داخل نفسه ويتعلم كيفية الحفاظ عليها. هذه هي خيارات كل لحظة: يُطلب منك المشاركة في تظاهرة دعماً لبوتين، اسأل نفسك الأسئلة الكبرى والكثيرة!
قبر التاريخ السوفييتي
كتبت مرة في احد كتبها الآتي:
«لو كان لنا أن ننظر إلى الوراء من تاريخنا، سواء ما قبل انهيار الاتحاد السوفييتي أو بعد انهياره، سنجد أن هذا التاريخ عبارة عن قبر جماعي ضخم وحمام من الدم الساخن، بل هو محادثة دائمة بين الجلادين الضحايا».
لم يترجم لها كتاب واحد إلى اللغة العربية، في حين أن كتب سفيتلانا اليكسيفيتش ترجمت ونُشرت في 19 دولة. أبرز كتبها:
«الوجه غير الأنثوي للحرب» (1985)، «مأخوذ بالموت» (1995)، «توابيت الزنك» (2006)، «آخر الشهود» ( 2005)، «الدعاء، تشيرنوبيل وقائع العالم بعد نهاية العالم»( 1997)، «نهاية الإنسان الأحمر.. أو زمن خيبة الأمل» (2013).
من كتابها «نهاية الإنسان الأحمر.. أو زمن خيبة الأمل»، ننقل هنا هذه العبارات:
«الألم على الدوام موضوع أحاديثنا. إنه طريقنا الى المعرفة. الغربيون يبدون لنا ساذجين لأنهم لا يتألمون مثلنا، وهم صنعوا أدوية لعلاج أصغر بثرة تظهر على جلودهم. أمّا نحن فخبرنا معسكرات الاعتقال وغطينا الأرض بجثثنا في أثناء الحرب وجمعنا بايدينا الشظايا من تشيرنوبيل. وها نحن الآن متحلقون حول أنقاض الاشتراكية. نرطن بلغتنا الخاصة، لغة الالم».