شهدت قاعة وايت كاسل على كانتبيري رود في لاكمبا- مركز جمعية كفر حلدا- في سيدني أمس بتاريخ العشرين من حزيران 2019 حشدا حافلا من الشخصيات الإنسانية، والحضور الكريم ليشاركوا في حفل التأبين، وذكرى الأربعين الذي أقامه أصدقاء الشاعر الفنان اللبناني الأسترالي» غسان علم الدين»، والذي كان علما من أعلام الشعر والأدب، والفنّ، ورمزا من رموز الحداثة الشعرية، والأصالة الفنية، غسان علم الدين الذي قضى حياته متنقلا ما بين لبنان وأستراليا، كان همّ الوطن، والعوالم الإنسانية شغله الشاغل، وكان الشوق إلى أهله المغتربين البعيدين عنه يقضّ مضجعه، فلا يجعله مستكينا، ولا هادئا إن في أستراليا، أو في لبنان، غسان علم الدين الذي عانق الحداثة فيما كتب من الشعر، فضاهى، بل تفوق على الكثيرين ممن تغصّ بهم الساحات الإعلامية ظهورا خاويا، فلم يكن يعنيه ذاك النوع من الظهور، بل اكتفى بالنزف وهو يكتب عن المستضعفين، والمهمشين، والمقهورين، وعن بلدته « المنية « التابعة لطرابلس، ضمن أسلوب يحمل من الشفافية والعمق، وثقافة الفكر ما لم يتأتّ لسواه، الفقيد الذي نهل من الكتب، والمكتبات العربية، والعالمية جلّها، حمل عوده ليوقّع عليه الأصالة التي انحدر منها، والتي رافقته طوال حياته، فكان محمد عبد الوهاب سمير جلساته، وتوهّجه البكر، وأسمهان ضالته المنشودة في المرأة الأسطورة بجلال حضورها، وعطائها، وتمرّدها، فراح في أستراليا يعزف لهما ولغيرهما من العمالقة الشرقيين مستجلبا إلى حفلاته الذوّاقة من المستمعين الذين ما يزالون يقدّرون الفن العتيق، ويُثرونه، وقد يكون ذلك طغى، فجعله يُغفل نشر ألحان كثيرة ألفها لشعراء معروفين، عمالقة ضمن مشروعه الذي لم يكتمل « أغني النثر» كان من بينهم محمد الماغوط، وكمال جنبلاط، ووديع سعادة، وعقل العويط، وبول شاوول، وعبده وازن، محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، وزاهي وهبي، وعباس بيضون، وكان آخر ما لحن قصيدة
« إغراء» لصديقه الدكتور رغيد النحاس في سيدني، وقد كان الفقيد الشاعر الفنان علم الدين قد افتتح أكاديمية شرقية لتعليم الموسيقى، وكتابة الشعر، وعاد إلى تدريس العزف على آلة العود في سيدني، وكانت له أحلامه وآماله النديّة في يقظة الفن الأصيل، وإرشاد الشباب إليه، سلاحا أبيض يواجهون به عناكب الظّلمات.
غسان علم الدين درس الموسيقى أكاديميا في بيروت، وكتب الشعر، والمقال، وعمل في الصحافة في بيروت في أشهر صحفها، وفي أستراليا، وكما يقول إنه حمل إلى « السّلمية» في سورية أول قصيدة له إلى الشاعر الكبير محمد الماغوط الذي شجعه بحماسة، قدّرها علم الدين بالفضل، والاعتزاز، والذّكر الدائم، أما عن دوواينه الخمسة المنشورة، والتي عنونها بشاعرية مطلقة، فجاءت قصائد هايكو بديعة المعنى، والروح فهي « خيط بياض، حين سرب فراشات اصطدم بزجاج النافذة، أخضر في سهول الجراد، يساورني ظنّ أنهم ماتوا عطاشى، محرمة الساحر المطويّة» فقد وقّع لها بين أستراليا، ولبنان، كما أن للشاعر الفنان الفقيد عشرة كتب ترجمها عن الإنكليزية صدرت عن « كلمة « في أبوظبي كان منها سلسلة « ثقافات الشعوب « التي جاءت كتبا منفصلة منها « شجرة الحياة حكايات شعبية من التيبت»، و» رجل العشب الأخضر حكايات شعبية من ويلز» ، و» سيدة البحيرة حكايات شعبية من ويلز»، وكتاب
« سيرة حياة بنازير بوتو» ابنة القدر» لدى شركة المطبوعات، وكتاب « أحمد بن حنبل» وتشكل المذهب الحنبلي لدى الشركة العربية للأبحاث، وكتب بعنوان «سلسلة الرواد الإداريين في العالم»- العمالقة لدى « دار العبيكان»، وتحطيم الأسطورة عن « دار العبيكان»، بالإضافة إلى قصائد كثيرة ومخطوطات لم تتسن له طباعتها، ورواية تتبنى في قصورها وأكواخها مراحل متعددة من حياة الفقيد، وبلدته المنية، بسراديبها، وبمباهجها، رواية كان يقول عنها دائما:» كلما غصتُ فيها أحسست أن بإمكاني أن أنتهي، ولا تنتهي».
وقد رعى، ونسّق للحفل أصدقاء للفقيد، فقدم لها الإعلامي عدنان مرعي، وللمتحدثين بأسلوب يليق بمكانة الفقيد الثقافية، والفنية بين أبناء الجالية العربية في أستراليا، وقيّم حضوره، وسعيه الإنساني في أعماله جميعها، وابتدأ الكلمات الدكتور مصطفى علم الدين قريب الفقيد، ثم تلته كريمة الفقيد سارة علم الدين، والدكتور رغيد النحاس، وعمر علم الدين صديقا الفقيد، والشاعر شربل البعيني الذي رثاه بقصيدة زجلية، والسيدة لويزا رومانوس، والسيد مصطفى حامد الذي كان شديد القرب من الفقيد من خلال جمعية بحنين المنية / مركز غرب سيدني للخدمات الاجتماعية حيث كان للفقيد حضوره الدائب اجتماعيا، وفنيا، وثقافيا، وعرض الفنان رافق العقابي عن حياة الراحل وأعماله من خلال شريط فني خاص جمع أطرافا من أعمال الشاعر الفنان، وحياته العائلية، كما ألقت الفنانة غادة ضاهر علماوي صديقة الشاعر كلمة قصيرة عبرت فيها عن فقدها له، ثم أدّت مع فرقتها « الأندلس العربية « عددا من الموشحات الأندلسية، وكان المحور الغالب على الكلمات سرد للمشاعر الطيبة الصادقة، واسترجاع ذكريات ومواقف جميلة مع الفقيد، ثم بعد استراحة قصيرة ختمت الأديبة أمان السيد زوجة الفقيد بكلمتها التي أرّجت فيها لكثير من أحاسيسهما المشتركة ملقية الضوء على مشاهد، ومآثر للفقيد عبر علاقته الحميمة بأهله، وببلدته المنية، وبمدينته الغالية طرابلس، ثم أنهت بإلقاء مقاطع شعرية من أحدث ما سيصدر للفقيد الشاعر في لبنان، جمعها عنوانان « شمس مختبئة في صدري»، و» المدن» التي ترجم له منها الدكتور رغيد النحاس إلى الإنكليزية، وينتظر لها أن توقع أيضا خلال فترة قريبة في سيدني.
ومما جاء في كلمة الأديبة أمان السيد:
« غسانُ الشاعرُ، الفنّانُ، الموسيقيُّ، المُلَحِّنُ، المثقّف، الرائدُ في أيّ مجال استدعاهُ، أحبّكُم، وأحبَّ الجميع، أكادُ أسترجعُه الآن، وهو يتّصلُ بأصدقائه فردا فردا ليُثمّنَ حُضورَهم مناسباتِه، غسانُ، الإنسانُ الذي تسربلَ بعباءة الطفولةِ، والمَنبِتِ، الذي عشقَ» المِنيةَ « مُنيةَ روحِه، فصارتْ له المَنِيّةَ، وتولّهَ بطرابلسَ وبلبنانَ بجُمعِه، وبتاريخِهما، وإحباطاتِهما، كان يحمّلني رسائلَ، يُعيدها مراتٍ، ومراتٍ، ثم يختبرني مثلما يُختَبرُ التلاميذُ، فهل تُراه كان يريدُ أن يتأكدَ أني وَعِيتُ أحداثَ طفولتهِ وأهلهِ وجيرانهِ جيدا، فهنا كان بحرُ المِنيةِ يتباهى بأمواجه العسليّةِ المُشذّبةِ بزُرقةِ السماء يخبِطُ نافذتَه وهو غارقٌ في عَتمةِ البيت الكبير مع كتبه، وعُودِه، وعبدِ الوهابِ، وأسمهانَ، وأطيافِ أمّهِ وأبيه، وإخوتِه الذين تشتّتتْ بهم الأصقاعُ، والأرجاءُ، هنا بيتُ خالتي خدّوج التي لا تسكت عن كلمة الحقّ، هنا جيرانٌ لنا حيث الديكُ يزعجُ الفجرَ الآنِسَ، ويمحقُ الضّياء، هنا بيوتٌ لأقربائي، آلُ علمِ الدينِ أعلامُ المَنطِقة، أنسابُهم، وسُلالاتُهم، تجبُّرُهم، وِغلظتُهم تِجاه من تُوسوِسُ لهم رغائبُهم تشويشَ دمائِهم، تشبّثُهم واستقواؤُهم ببعضِهم، هنا دُكّانُ ديبِ الشّرّ بطلِ روايتِه التي لم تكتمل، هنا خفايا اطلع عليها منه وهو حَدَثٌ لم يبلغِ التاسعةَ من عمره، ما جَرُؤَ على البوحِ بها لأخيه الأستاذِ أحمدَ، أخي أحمد خيرُ من أنجبَ آلُ علمِ الدينِ، ومَنْطِقَتُهم، وهنا أرضٌ تحتفي بكثير من الكنوزِ والآثارِ التاريخيةِ، والدينيةِ، وهنا كانت بساتينُ الليمونِ التي غدرَ بها أصحابُها لُهاثا وراء التّحضّرِ، واكتراءِ المال».
ومن « شمس مختبئة في صدري» قرأت الأديبة زوجة الفقيد:
الشمسُ الّتي خبّأتهُا دهورًا في صدري
ها تبزُغُ طوابيرَ بشرٍ
يغادرونني بلا أدنى التفاتةٍ،
بلا حتى ولو إشارة..
كأنّني ظلامُ القاعِ الرّهيب،
كأنّني القاعُ،
كأنّني الرّهيب..

أشعّتي الّتي ذات بردٍ وشتاءٍ عاصِفَين
أذابتْ جبالَ الجليدِ هناك:
ثبّتوا نَظراتِهم في قُرصِ ظهيرتِها،
لم يرفَّ لهم جفنٌ.
رغم ذلك حمّلتُهم برتقالِي،
وُرودِي، زَيتوني، تُموري،
مَضَوا،
لم يترُكوا لي برتقالةً، حبّة زيتونٍ،
ثمرةً، وردةً واحدة.
وقفتُ في صحراءِ حضورِهم،
أتصارعُ وبقاياهُم المرميّةَ،
كالفرسانِ الفارّينَ من المعركة،
ألملِمُهم حَطباً لا يصلُحُ حتّى ولو وَقُودًا،
حينما إِبَرُ الصَقيعِ وَنَدفُ الثّلجِ
في الجبال يخترقانِ العِظام.

انظُرُوا:
ها هي الدّروبُ الّتي نكتوي بنارِ الظّهيرة،
ونحن نجتازُ مَسافاتِ الوَهمِ،
في طريقنا إلى أحضانِ العشيقات!

الحبُّ:
وسيلةٌ للوصول؟
الحبُّ غايةُ الوصول؟
الحبُّ وسيلةٌ للجلوس؟
لا يمكنُ لي أن أعيَ، أن أقدّرَ، أن أحصيَ
كم نزفتُ، وكم سقطَ منّي سَهوًا،
كم سُرِقتُ،
كم مرّةً الّذين استدانُوا
أثمانَ رغيفِ العَيش،
على امتدادِ أعوامٍ،
اعترضُوا سبيلي،
انهالُوا عليّ بسكاكينَ وبَلْطاتٍ، وكلماتٍ،
ثمّ أطلقوا رصاصَهم على يديّ.
عيناي تجمّدتا
كخَرزتين في مِسبَحَة مُشعوِذ!

عرفتُ أم لم أعرف شيئًا،
نائماً كنتُ، أم مستيقظًا أقول:
الإنسانُ أجملُ ما رأتْ عيناي..
النّائمُ يَغرَقُ في أحلامِه،

أمّا المستيقظُ:
فَسَابحٌ في مُستنقعاتِ الحياة.

ها نحن على بُعد مئاتِ الملايين
من السّنينَ الضَّوئيّة:
كلّما اقتربَ الإنسانُ
من ساحاتِ الإنسانِ الفسيحةِ،
كلّما راقَ له الظّلُّ وحبُّ العُزْلاتِ.
تتغيّرُ الآلهةُ، تبقى الآلهة، تزولُ الآلهة،
ليس مُهمًّا:
ثمّة فهمٌ لا يمكنُ إدراكُه:
هل يمكنُ للصّدفةِ أن ترسمَ لوحاتٍ،
بألوانٍ خرافيةٍ،
تجعلُنا نقيمُ على الحدِّ الفاصلِ،
بين الاحتمالاتِ،
ولحظاتِ القبضِ على حبالٍ من الزّئبق؟

اُرسُمْ من أجلِ نفسِكَ،
أمّا أنا فأكتبُ لأجلِك،
أنا أعزِفُ من أجلِ الطّبيعةِ،
وأغنّي من أجلِ الرُّوح،
وأرقُصُ فقط من أجلِ الرّقص،
في سبيلِ أن يّظلّ للحياةِ نبضُ حَياة.

إخواني:
يا أبناءَ الشّوارعِ،
أجسادُنا آبارٌ مهجورةٌ،
أباريقُ مُهشّمةٌ، أبوابٌ مُخلّعة،
قصورٌ مُرَجّمةٌ بلا مراحيضَ،
بلا نوافذَ..

أين الأبناءُ، أين الأخوةُ، أين الأصدقاءُ،
أين الشّبهاءُ؟
هل لا يزالُ أحدٌ على قيدِ الحياة؟
فلنُطفئِ النّورَ،
لقد حان وقتُ النّوم،
وما استرعى انتباهَك لما سمعتَهُ منّي،
ليس سوى كلامٍ بكلام،

مسرحُ دُمىً شاهدْناهُ مرّاتٍ ومرّات،

وفي الغد ستُطالعنا الصّحفُ به،
ومواقعُ التّواصلِ الاجتماعي…
ها هم المُهَابُون،
بدؤُوا في توزيعِ الميداليّاتِ،
لم تبدأِ الجَولةُ الأولى بعدُ.
نحن المقهورون، المغلوبون:
أيُّ حزنٍ أكبرُ من حُزنِنا،
أيّ هوانٍ أكثرُ إيلامًا،
أيُّ ليلٍ أطولُ من نَظراتِنا المُجوَّفةِ،
أيُّ جبناء، أيُّ خَوَنةٍ، أيّ مَارقينَ نحن؟

فلنطفئِ الأنوارَ، علّنا نخلدُ إلى النّوم،
فالّليلُ القادمُ طويلٌ، طويلٌ،
لا تحدّهُ أجهزةُ قياسِ الطّول، ولا أجهزةُ قياسِ العَرض.

صغيراً كنتُ حينما دعوتُ «عبدَ الوهابِ»
للاستماعِ إلى أول لحنٍ أعزِفُه.
آهٍ لروعةِ الألحان والأنغام,
آهٍ، وآهٍ، وآه أيضاً لروعةِ الدِّهانِ الّذي انشقَّ
عن سماءٍ لا تُشبهُ السّماوات..
كذلك دعوتُ «بيكاسو» وشاهدَ لوحَتي،
رغم ذلك
لم أسترحْ من آراءِ وتقاريرِمدارسِ السّنين،
ونَيلِ شهاداتِ المدارسِ ومدارسِ الحياة.
وما إن نشفَ دِهِانِيَ الرائع على الحائطِ،
واختنقَ كلُّ مَن في البيت بروائحِه،
وبِنَزقِ الوَرّاقينَ، ومَهارةِ النّجّارينَ،
وبَمَطرقةِ السّفَاحينَ المُدبّبةِ، بمساميرَ قاتلةٍ:
سَفَحَتْ أمّي بُكورةَ تَشكيليَ الأوّلِ على الحائط،
وقالت:
«هَيتَ لك».
الآن أَرِنِي فُحُولةَ فنّانيكَ،
وابدأ من جديد،
وليأتِ مُنذُ الّلحظةِ: عبدُ الوهّابِ،
وفريدُ الأطرش، وفان غوخ،
وليَمُوتُوا بعد هذا،
في الأقلّ يكونُ لموتِهم مَعنى،
يموتون قَهرًا عليك..

آهٍ يا بحرَ «المِنية»
آهٍ يا مدَّكَ، يا جزرَكَ، يا وحوشَكَ،
يا شعابَك المرجانيّةَ، يا قواربَكَ، يا سفنَكَ،
يا وجوهَ بحّارتِكَ العِتاقِ،
يا غناءَ مُنشديك، يا صوَرَ وأحلامَ وغلائلَ،
وحِداءَ وموسيقى شُعرائِكَ:
«حفيظةُ أحمدُ علمِ الدين»
أهمُّ النّقادِ الّذين عَرفتُهم في حياتي.
هذا اليومُ هو يومٌ غيرُ عاديّ..
كم رائعٌ أن تشعرً أنّكَ غريبٌ ومَقهور،
أنّكَ مظلومٌ وظالمٌ، أنّكَ قتيلٌ وقاتلٌ.
ارتضيتَ لنفسِكَ أن تَمتهِنَ أقذرَ مِهنِ التّاريخِ..
لو أنّ أنهارَ الأرضِ مَشتْ مَعكَ،
لَبِسِتْكَ،
لن تُطهّرَكَ مِن وِزرِ تهمةٍ واحدة:
تريدُ الهروبَ من أصولِ نخيلِكَ المواصلةِ صُعودَها
إلى لا إلهَ، إلى لا سماءَ
والإقامةَ في رأسِك وقلبِك،
وأحلامِك المكتظّةِ بالضّعفاءِ،
والغرباءِ، والمقهورين؟
إنّه اليومُ الأخيرُ
من أيّامِ حضارةِ المُقامرينَ بأطفالِهم،
بنسائِهم، بأحلامِهم, بدمائِهم
القدرُ يعرفُ الّلحظةَ،
يعرفُ كيمياءَها، عناصرَها،
يعرفُ ميزانَ آلهتِها، أرضَ عقولِها،
مُناخاتِ سماواتِها، استطاعةَ رغباتِها،
وأمجادَها الموجوعةَ النّازفةَ،
عند جُذوعِ أضعفِ زيتونةٍ،
عند شروشِ أصغرِ وردة.

ومن قصيدة « المدن»:
إلى طرابلس اللبنانية
تَملِكُ المدنُ القوّةَ، الجاذبيّةَ ما لا تملِكُهُ النّساءُ الّلواتي أحببتُهُنّ
وانجرفتُ بحبِّهنّ وإنِ اجتمعن.
تُحرّضُنا المدنُ على العيشِ فيها، بالقَدْرِ نفسِه الّتي تحرُّضُنا
على رفضِها، على الانتفاضِ في وجهِها والخروجِ عليها.
وفي الوقتِ عَينِه تُحرّضُنا على الإذعانِ والاستكانةِ وقَبولِ
صُوَرِها الجاهزةِ المُكتملةِ، وإلى الإسهابِ والإيجازِمعًا.
للمدنِ الّتي نُحبّها شُروطٌ لا يمكنُ بلوغُها سوى بِالعصيانِ
والتّمرّدِ والثّورةِ.
للمدنِ الّتي نحبُّها عيونُ نُسورٍ، عيونُ صقورٍ شَرطُها الحبُّ
والتّجاوزُ والإكراهُ.
الفارقُ هنا بسيطٌ ومُعقّدٌ، يثبّتُه العقلُ ويَنفيهِ الانفعالُ.
المدنُ كالكُتبِ، تعبّرُ عن أحلامِ كاتِبيها، عن أحلامِ سكّانِها،
تُشبِهُهُم، كقطعةِ الخامِ الحَليبيّ الّلونِ والبَياضِ، تُطرّزُهُم، وبنَزَقِ
الأطفالِ ورُعُونتِهم يُهرِّئُونَها، يُفنُونَها كما أيةِ خُردةٍ، كما أيَ
حذاءٍ ضَاقَ، فتمزّقَ من كلّ الجوانبِ والأنحاءِ.
بعضُ سكّانِ المدنِ هم سكّانُها الحقيقيّون، الجَديرون، والبعضُ الآخَرُ
لقطاؤُها، لا يجرؤُ الكثيرون على ادّعاءِ بُنوّتِهم، لا يجرؤُ الكثيرون
على التّبرّؤِ منهم أيضاً.

ليس مهمًّا أن نَسكُنَ المدنَ الّتي نُحِبّها، لكنّ الأهمَّ أنْ تَترُكَ
فينا قوافلَ المشاعرِ وأسرابَها بأنّنا أبناؤُها، تَحضُنُنا إنْ غِبنا عنها،
تَحمينا حيثُ لا مَلجأَ وإنْ لم يكن في مقدورِها لا الاحتضان، ولا الإيواء.
سكّانُ قلوبِ المدنِ وعُيونُها وأطرافُها ورؤوسُها همُ الغرباءُ، المشرّدون،
النّازحون، المُهجّرون. سكّانُ قلوبِ المدنِ الأمّ، هم مُضاجعُوها، وهي
عشيقتُهم، هُمُ الخَوَنةُ، هُمُ القَتَلة وفاقِئو العيون.
………
تغطية أمان السيد