بقلم / بيار سمعان

اقام المغني الفرنسي شارل ازنافور الارمني الاصل حفلة غنائية ادى خلالها معظم اغانيه التي اشتهرت طوال سنوات. وازنافور البالغ من العمر الآن 93 سنة ادى مجموعة من اغانيه ذات المعاني والذكريات الخاصة بالنسبة له ولكثيرين عاشوا ظروف حياته، خاصة من الارمن الذين عاشوا اسوأ ظروف الاضطهاد والابادة الجماعية. ربما صور النازحين السوريين والعراقيين اثارت لديه ذكريات مؤلمة من الماضي. لذا غنى Les emigrants  اي المهاجرون وادى مجموعة اغاني اخرى حول الشعب الارمني وما  ارتكبته الامبراطورية العثمانية بحقهم… وعلق ازنافور انه بالامكان استبدال كلمة ارمني ووضع اسم اي شعب آخر ويصبح موضوع الاغنية يتلاءم مع ظروف اللاجئين الحاليين.

لكن ازنافور يدرك كالآخرين ان النزوح الارمني كان قراراً سياسياً وعملاً قسرياً نفذته السلطة العثمانية من اجل تصفية شعب بكامله. لذا سيق الشعب الارمني من بلده واماكن تواجده في المملكة العثمانية باتجاه الصحراء السورية حيث جرى تصفية الآلاف. بينما النزوح السوري هو ناتج عن الازمة الداخلية السورية وصراع الاطراف المتنازعة والاعمال العسكرية التي تتأزم يوماً بعد يوم وتتصاعد من سيء الى اسوأ.

فالمتضررون من هذه الحرب، ومن خسروا منازلهم ومن تهدد اعمال الحرب حياتهم وعائلاتهم فضلوا النزوح الى تركيا او لبنان والاردن علىامل ان تهدأ الاوضاع وتجد المشكلة السورية حلاً لها.

لقد اصبح عرفاً ان المهاجرين واللاجئين والمجموعات الضخمة من النازحين، غالباً ما ينتقلون كتدبير وقائي الى اي بلد مجاور بانتظار العودة الى بلدهم.. ثم يقررون فيما بعد النزوح باتجاه دول مزدهرة، تحفظ حقوق الانسان وتوفر ضمانات الاستقرار وفرص العمل والعيش الكريم لهم ولعائلاتهم.

بالطبع كل هذه الامور لم يسمح للشعب الارمني، ان يختار اياً منها، لأن القرار السياسي كان يهدف الى التخلص النهائي من امة بالكامل.

ملايين السوريين والعراقيين الذين انتقلوا الى بلدان مجاورة اصبحوا يدركون ان الازمة السورية العراقية هي مستعصية وانها قد تدوم لسنوات طوال، لذا قرروا النزوح نحو اوروبا.

الحقيقة الصادمة الاخرى تتعلق بوجهة هؤلاء..!!

لماذا يختارون دولاً اوروبية ولا يتجهون نحو دول الخليج المجاورة الثرية والتي يتحدثون لغتها ويتشاركون العقيدة معها؟

 مساعدات دولية.

حوالي 180 دولة معظمها اجنبية تقوم بتوفير المساعدات المالية المباشرة او عبر مؤسسات الأمم المتحدة والتنظيمات الدولية الانسانية.. وتشمل هذه المجموعة دولاً مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، استراليا، فرنسا، المانيا، كندا، اليابان، نيوزلندا، البرازيل والعديد غيرها.

وتقدم المساعدات للنازحين والمشردين واللاجئين في سوريا والاردن ولبنان والعراق وتركيا وجزيرة ليسبوس اليونانية.  وتشمل مساعدات الدول المعونات المالية وتوفير المسكن المؤقت وتقديم الغذاء والخدمات الطبية والارشاد النفسي خاصة للنساء اللواتي تعرضن للاعتداءات الجنسية او اختبرنا الكثير من العنف ورؤية الدم والدمار مع اطفالهن.

صورة طفل غرق على الشاطئ التركي هزّت مشاعر العالم وفتحت ابواب اوروبا امام الآلاف من اللاجئين. وكانت وجهتهم نحو الغرب وليس نحو دول الشرق الاوسط.

هذا الواقع يطرح تساؤلات عديدة. فاللاجئون السوريون اغلبهم مسلمون. لماذا تركوا الدول الاسلامية ليذهبوا الى «الغرب الكافر والمستعمر…؟؟»

لماذا يموتون في البحر ويغامرون بحياة اطفالهم للوصول الى البلدان الاوروبية الكافرة التي حذر منها الشيوخ وحرض عليها الأئمة وشنت عليها الفضائيات حملات مبرمجة من التحريض والتكفير واباحة دم ابنائها..؟؟

هذه الدول التي افلحت في اقتصادها وازدهارها لم تتردّد بقبول 800 الف لاجئ سوري خلال اسابيع قليلة.

ماذا عن الدول العربية الغنية ؟

ماذا فعلت لخدمة الانسان السوري خلال تشرده ومعاناته.

لكن يبدو ان الانظمة العربية بمجملها  لا يهمها البشر ولا يهمها الانسان..المهم هو الحفاظ على العقيدة.

تنفق الدول العربية الغنية ملايين الدولارات لدعم الجماعات الاسلامية  المتطرفة ولتشييد المساجد ونشر العقيدة المتطرفة في اغلب الاحيان، لكن لا يهمها  الانسان المشرد والمتألم، الانسان اللاجئ الذي يبحث عن موضع يسند اليه رأسه لينام ومكان يأمن فيه ان قذيفة لن تنثر اشلاء عائلته وتقتلهم.. الملايين تنفق للاطاحة ببشار الاسد واضطهاد الاقليات واقتلاع آثار تاريخية ذات بعد حضاري لا تقدّر قيمته التراثية والادبية.

وكل ما يهم معظم العرب هو السير بالاتجاه المعاكس للبشرية ونشر التطرّف وتحويل المسلمين الى قنابل موقوتة. لكن لا يهمهم الملايين من المسلمين ان شردوا وجاعوا، او قتلوا واستبيحت اعراضهم ودمرت منازلهم او مات اطفالهم على شواطئ اوروبا.

اغنياء العرب الذين يتربعون على قائمة اغنى اغنياء العالم، لديهم ما يكفي لتوطين ورعاية كل اللاجئين العرب وتوفير الرعاية والتربية لهم ولأبنائهم والتكفّل باحتياجاتهم.. لكن هذا لا يهمهم. يبذرون اموالهم على الفضائيات المتطرفة والرحلات المكوكية حول العالم وليالي البذخ.. لكن لا يهمهم الانسان.

لم يسمع العالم صوت الأئمة ومشايخ الفضائيات يدعون لمد يد العون للاجئين. لم تدمع عين احدهم لمعاناة الشعب السوري، وبالتحديد 8 ملايين لاجئ ومشرد.

البابا فرنسيس، زعيم النصارى، اوصى الكنائس والاديرة والكهنة في اوروبا لاستقبال اللاجئين السوريين..

شعوب الكفار تخرج وتتظاهر ضاغطة على زعمائها لاستقبال اللاجئين السوريين بينما اكتفت الشعوب والانظمة العربية وقياداتها السياسية والدينية بالتفرّج من بعيد.

وكالعادة يصدر العرب بيانات الاستنكار وتوجيه التهم والادعاء بالمساعدة وتوفير الاموال.. ربما الكويت تستثنى ولم تتردد منذ البداية من تقديم المساعدات المالية.. لكن يبقى الموقف والرأي الاساسي: «الله يسعدهم ويبعدهم… لم تخرج اية مظاهرة في العالم العربي – والاسلامي تطالب الحكام بمؤازرة اللاجئين، ولم تعل صرخة واحدة من دعاة ومشايخ العالم الاسلامي تستغيث نحو العرب والمسلمين لدعم اخوتهم في الايمان.. لأن لهم الله ولهم اوروبا الكافرة.

كم هو رخيص الانسان العربي. وكم يفقد من قيمته الانسانية في انظمة الشرق الاوسط انه مجرد رقم يضاف الى المليار ونصف، نحتاج اليه فقط عند تعداد السكان او للقيام بمظاهرة او ارتكاب عمل ارهابي او اختطاف طائرة اوتفجير سفارة.. لكن لا حاجة لوجوده دون ذلك.. المهم ان تحفظ العقيدة ولو مات الانسان.

منذ مئة عام نقل مئات الآلاف من الشعب الارمني نحو الشرق لتصفيتهم في الصحارى بعد الاعتداء عليهم. من كتبت لهم الحياة عاشوا في سوريا ولبنان ومصر واوروبا ودول اميركا، اندمجوا في مجتمعاتهم وبرعوا في مجالات تخصصهم وفي اكثر من قطاع.

شارل ازنافور الذي دمعت عيناه لرؤية اللاجئين السوريين، تذكر آباءه واجداده الذين ساروا بالاتجاه المعاكس ولم يعودوا.

اليوم تعكس المسيرة والاسباب. الفارق الوحيد والجوهري ان الشعب السوري، وقد يرمز الى كل الشعوب يطلب الحياة والاستقرار في بلاد الغرب الكافر.

فهل ينجح هؤلاء بالاندماج والازدهار والشهرة وحسن التكيّف مع البيئة الجديدة كما فعل الأرمن؟

من يعش ير…!!

pierre@eltelegraph.com