التاريخ يستهويني جداً.. إذ يكمن فيه تراث البشرية.. وهو خير معلم.. والمثل يقول من لا ماضٍ له لا مستقبل له.. من ثم كنت دائماً أهتم بتاريخ الجالية اللبنانية والجالية العربية في استراليا..
أجريت بحوثاً ميدانية في هذا المجال.. وكتبت عن تاريخ استقرار الجالية اللبنانية والعربية عدة مقالات.. إستقيت بعدها نظرياً من مصادر الدراسات المنشورة.. والبعض الآخر ميداني من واقع الحياة المعاصرة للجالية.

وقعت في يدي صفحات من مجلة قديمة تابعة للكنيسة الكاثوليكية الاسترالية.. مؤرخة بـ16 كانون الثاني عام 1897.. عنوانها بالإنكليزية
«Catholic Weekly Freemans» .. وفيها وقائع مفصلة لإفتتاح كنيسة القديس مارون في شارع إليزابيث في منطقة ردفرن بتاريخ 10 كانون الثاني عام 1897.
وهي تضم الكلمات التي ألقيت في تلك المناسبة الدينية الهامة.. وقد تمتعت بقراءتها جداً.. حيث جالت مخيلتي الى واقع 126 عاماً مضت من تاريخ الجالية اللبنانية وبالذات الطائفة المارونية.. ورأيت انه يجب ذكر مقتطفات منها لقرّاء التلغراف.. وذلك بمناسبة مرور 126 عاماً بالضبط على إفتتاح تلك الكنيسة.

تقول المقالة انه حضر إفتتاح الكنيسة الكاردينال موران رئيس أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في سيدني.. والقنصل العام الفرنسي والقنصل التركي.. وعضو المجلس التشريعي لمستوطنة نيو ساوث ويلز أوكونر.. وراعي كاتدرائية سانت ماري.. وكهنة غيرهم وعدد كبير من الضيوف.

والملاحظ ان في تلك الحقبة من الزمن كان يُطلق على اللبنانيين إسم السوريين.. وكان لبنان مع دول الشرق الأوسط يرزخ تحت الحكم التركي.. ولكن حينما كان رئيس الأساقفة الكاثوليكي في خطابه يشير الى الموارنة كان يقرنهم بلفظ جبل لبنان.. وذكر الكاردينال في خطابه تفاصيل تاريخ الكنيسة المارونية في لبنان في القرن الرابع الميلادي.. وكفاح الموارنة التاريخي بالحفاظ على كنيستهم وتقاليدهم الكنسية.

إمتدح في خطابه أبناء كنيسة القديس مارون الذي أسسوا الكنيسة بردفرن.. حتى أنهم يوم الإفتتاح طبقاً لأقواله لم يجلسوا على مقاعد الكنيسة.. سواء النساء أو الرجال منهم.. ولكنهم أبقوا كل مقاعدها للضيوف.
وفي ليلة الإفتتاح تم جمع باقي الاموال اللازمة لتسديد الديون لبناء الكنيسة.. وقد تبرع بها أبناء رعية الكنيسة المارونية بليلة الإفتتاح.. رغم ان الجزء الأعظم منهم كان فقيراً في ذلك الزمن.

وقد تحدث في الحفل نيابة عن الموارنة الآب عبد الله يزبك وقال ان البطريرك الماروني قد أرسله مع الأب جوزيف دحدح لتأسيس كنيسة مارونية لتلبي أبناء الجالية المارونية في سيدني.. وقال انهما أسسا مبدئياً كنيسة صغيرة في منزل في شارع ووترلوو.. ولكنها صغيرة ولا تتسع للمصليين من أبناء الطائفة المارونية.. وقال الآب يزبك أيضاً ان حضور القنصل الفرنسي في يوم الإفتتاح هو ذات معنى خاص.. إذ ان فرنسا كانت دائماً حامية الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط.

وفي خطابات الإفتتاح أيضاً ان مستوطنة نيو ساوث ويلز في تلك السنوات أي عام 1896 وما قبله أي قبل الدخول الى الاتحاد الفدرالي الاسترالي عام 1901.. كانت المستوطنة تمنع دخول الأجانب الغرباء الى أراضيها.. إلا تحت ظروف إستثنائية.. ولكن الكاردينال موران مع عضو المجلس التشريعي أوكونر حثا برلمان نيو ساوث ويلز على فتح الباب أمام الموارنة لدخول المستوطنة بصفتهم عرقاً دينياً مميّزاً مرغوباً به في المجتمع.
وكانت الكلمة بعد ذلك للآب جوزيف دحدح الذي شكر الكنيسة الكاثوليكية في سيدني لمساعدتها للكنيسة المارونية.. ورد الكاردينال الاسترالي بقوله انه يعرف ان المستوطنات الاسترالية سوف تدخل بعد فترة بسيطة في الاتحاد الفدرالي اي عام 1901.. والحكومة الفدرالية التي سيتم تشكيلها لن تمنع قدوم الموارنة الى استراليا.

هكذا تم إفتتاح الكنيسة الجديدة للموارنة بإسم القديس مارون وباركها الكاردينال موران بتاريخ 10 كانون الثاني عام 1897.. وكان أول الآباء الذين خدموا الكنيسة هو الآب عبد الله يزبك الذي خدم فيها منذ عام 1893 وحتى عام 1933.. والذي وافته المنية إثر إنهياره على المذبح الإلهي عام 1933.. ودُفن في مقبرة روكوود في سيدني.
فمع ان كنيسة القديس مارون قد إفتتحت في سيدني رسمياً في 1897 إلا ان أبناء الطائفة المارونية وقبل وصول الآباء الكهنة الموارنة كانوا يشبعون إحتياجاتهم الروحية من خلال الإكليروس الاسترالي ذات الطقوس اللاتينية.. فرغم إفتقارهم للموارد المالية والمادية إلا انهم كانوا يتمتعون بموارد ثروة روحانية هائلة.. إنطلقت من كنيستهم البسيطة والتقاليد المارونية.. منذ تاريخ إستقرارهم الأول.. إذ عقدوا العزم على التجمع مع بعضهم بإقامة الصلوات والحفاظ على الإيمان الماروني والتقاليد الخاصة بهم.. الى ان أسست الكنيسة الآولى لهم رسمياً عام 1897 في سيدني.
والآن وبعد مرور حوالي 127 عاماً على إفتتاح كنيسة مار مارون أصبحت للطائفة المارونية مؤسسات كنسية وتعليمية وتربوية واجتماعية هائلة.. تقدر قيمتها بمئات الملايين من الدولارات.. من مدارس ثانوية وإبتدائية ودور العناية بالمسنين وذوي الإحتياجات الخاصة.