الحلقة الثانية

بقلم / بيار سمعان

< ولادة العذراء مريم

قبل ايام من ولادة العذراء مريم، اعلمت حنة زوجها يواكيم ان موعد ولادتها قد دنا. فأرسلت بطلب شقيقتها «مراحية» وارملة آميو، شقيقه اليصابيت التي تقيم في وادي زابلون، وصالومي ابنة اختها «صوبيا» وهي زوجة زبدي، والدي يعقوب ويوحنا (لم يكونا قد ولدا بعد). كما طلبت حضور ابنتها البكر مريم.

ورأت إيميريتش النسوة قادمات برفقة ازواجهن الذين رافقوا النسوة حتى مشارف بلدة الناصرة.

اهتمت الابنة مريم حلي زوجة كليوفا بترتيب المنزل وادارت شؤونه.

وخلال ليل 7 ايلول، غادر يواكيم المنزل مصطحباً بعض الرعيان من اقاربه وقطعان الماشية الى موقع قريب من الناصرة. كان يدعو مرافقيه «اخوتي» لكن بالواقع كانوا ابناء اخوته. جلسوا معاً في العراء يتناولون طعام العشاء  الذي احضره يواكيم  من المنزل.

وكان يواكيم قد اقام مذبحاً مؤلفاً من صخرة كبيرة، اجتمع الرجال حوله للصلاة.

بعد ذلك اختار يواكيم افضل ما لديه من الخراف وارسله تقدمة الى الهيكل.

عند وصول النساء ودخولهن المنزل، قاموا جميعاً بالسلام على حنة وتقبيلها. ثم وقفت النسوة معاً وقمن بتلاوة احد المزامير الذي ورد فيه: «مجدوا الرب إلهنا لأنه ترأف بشعبه وحرر اسرائيل. حقاً، لقد تمم الوعد الذي اعطاه لآدم وحواء في الجنة، وان نسل المرأة سيسحق رأس الحية… ان الوعد الذي قطعه الله مع ابراهيم قد اثمر فيّ، والعهد الذي وعده الله لسارة وهارون قد تم معي…»

خلال الصلاة، تلألأ وجه حنة واصبحت تشع بنور ساطع. وامتلأت الغرفة بعظمة متناهية، وبدا وراء حنة «سلم يعقوب» متجهاً نحو السماء. وبدت النسوة متعجبات لأنهن رأين ما شاهدته إيميريتش.

بعد الصلاة تناولت النساء مشروباً مرطباً ثم لجأنا للراحة حوالي منتصف الليل. حنه لم ترقد بل تابعت الصلاة. بعد مدة قصيرة ايقظت النساء لأن الوقت قد دنا. وطلبت اليهن الصلاة معها.

وانتقلت النسوة معاً وراء ستار حيث اقامت حنة مذبحاً للصلاة.

هناك فتحت حنّة خزانة خاصة واخرجت منها ذخائر مقدسة، من ضمنها «خصلة شعر من سارة»، عظام يوسف كان موسى جلبها معه من مصر، واغراض خاصة بطوبيا، ذخائر وألبسة والكأس التي شرب منها ابراهيم عندما دعاه الملاك، وهي الكأس التي اخذت من تابوت العهد واعطاها الملاك ليواكيم، طالباً اليه ان يحتفظ بها في منزله. ويعتقد ان هذه الكأس هي ذاتها التي استعملها يسوع في العشاء السري.

سجدت حنه امام المذبح وامرأتان الى جانبيها والثالثة وراءها. لم تكن مريم، ابنة حنة البكر موجودة، لأن التقليد اليهودي يحظر وجود الابنة خلال الولادة.

< ماذا حدث ساعة ولادة مريم؟

تقول الراهبة إيميريتش. فجأة بدأ نور ساطع غير طبيعي يملأ ارجاء الغرفة ويعوم فوق حنة. وتجمدت اواصر النسوة وكأنهن في صدمة كبيرة عطلت حواسهم  فسقطن ارضاً. ورويداً اتخذت الاضواء شكل النار التي اضرمت في «العليقة» عندما تكلم الله مع موسى.

تقول إيميريتش: لم أعد قادرة على رؤية حنة. ودنت النيران اقرب فأقرب منها. وفجأة رأيت الطفلة مريم في ذراعي والدتها وهي تشع نوراً. فلفتها بمعطفها وضمتها الى صدرها، ثم وضعتها في سرير امام الذخائر وسجدت تصلي.

وسمعت الطفلة مريم تبكي، فدنت الوالدة منها واخذت اقمشة من صندوق ولفتها بها دون الذراعين والرأس. بعدها اختفت شعلة النار من الغرفة.

استفاقت النسوة من الغيبوبة وفوجئن بوجد الطفلة التي قامت كل منها بحملها وضمها الى صدورهن، وسالت دموع الفرح من اعينهن.

وبدأن بشكل عفوي بغناء صلاة الشكر فيما كانت حنة ترفع الطفلة عالياً وكأنها تقدمها الى الله. وتقول إيميريتش: رأيت افواجاً من الملائكة يعلنون وهم ينشدون :«في اليوم العشرين، سوف تدعى هذه الصغيرة «مريم». ثم انشدوا المجد والتسبيح لله.

بعدها انتقلت حنه الى غرفتها واستراحت على سريرها، فقامت النسوة بغسل الطفلة والباسها قبل وضعها الى جانب والدتها.

ثم هرعت احدى النسوة لتدعو يواكيم. دخل الوالد وسجد الى جانب السرير وذرف الكثير من الدموع عند رؤية الطفلة مريم. ثم حملها وانشد نشيد شكر لله، كما فعل زكريا لاحقاً. واطلق عبارات عاطفية قائلاً: اليوم يمكنك يا رب ان تطلب روح عبدك.

وتقول إيميريتش: عندما ولدت مريم رأيت في نفس الوقت الطفلة مع والدتها وبمعية الثالوث الأقدس. ورأيت السماء مغتبطة تعمها اجواء الفرح. كما شاهدت النعم الكثيرة التي انعم الله بها عليها، كشفت الي بشكل فائق الطبيعة. وغالباً ما اشاهد مثل هذه الرؤي التي لا يمكنني وصفها بكلام بشري، لذا افضل الصمت في مثل هذه الحالات.

كذلك ادركت في هذه الرؤية ان نبأ ولادة مريم اعلن عنه في «اليمبس» فابتهل به من كانوا في الداخل من الآباء والاحبار، خاصة آدم وحواء اللذين ابتهلا لأن وعد الله قد تحقق. وتحولت موجة الفرح لديهم الى نور مشع أنار وجوههم، وكأن اعمالهم الصالحة وتضحياتهم والجهود التي بذلوها خلال حياتهم، وان آمالهم وتطلعاتهم قد اثمرت.

وتتابع إيميريتش قائلة: كل الطبيعة، وما فيها من مخلوقات وجماد، رجالاً وحيوانات كانت فرحة، وبدأ الجميع ينشدون التسابيح للرب.

وحدهم الخطأة كانوا قلقين ونادمين. كما رأيت في جوار الناصرة واقسام من فلسطين، الارواح الملبوسة مضطربة ساعة ولادة مريم العذراء وكانوا يصرخون وينوحون. حتي الشيطان كان يصرخ: علينا ان نخرج منهم ونرحل.

وتابعت قائلة: كانت فرحتي لا توصف عندما رأيت سمعان الشيخ في الهيكل ليلة ولادة مريم. نهض عند سماعه صراخ الناس الملبوسين على مقربة من جبل الهيكل.

خرج سمعان الى المكان الذي يربط فيه الملبوسون والمخصص لهم ليسأل عن سبب عويلهم الذي ايقظ كل النائمين في اورشليم. فرد معظمهم مع الارواح الشريرة قائلين: علينا ان نرحل. ولدت اليوم عذراء. العديد من الملائكة يعذبوننا. علينا الرحيل دون عودة. فعاد سمعان الى الهيكل وسجد يصلي.

كما جرى اعلام النبية «حنة» وامرأة اخر داخل الهيكل ستصبح لاحقاً معلمة مريم ان عذراء ولدت. واعتقد انهم كانوا يتوقعون ذلك.

كذلك أدركت احدى النبيات في بلاد المجوس ان عذراء ولدت. ورأى المجوس علامات في السماء تشير الى ولادة العذراء.

وفي مصر تهاوى تمثال وثني في البحر وتحطم آخر ساعة ولادة العذراء.

< جيران واقارب يزورون الطفلة.

في صباح اليوم التالي رأت إيميريتش جموعاً غفيرة، نساءً ورجالاً واطفال، من الناصرة وقرى الجوار قادمين لتهنئة حنة وإلقاء نظرة على مريم.

كانوا جميعاً متأثرين. حتى من روجوا الاشاعات ضد حنة ابدوا ندامة صادقة. جاؤوا جميعاً الى المنزل بعد ان رأوا نوراً يشع منه خلال الليل، واعتبروا ان ولادة هذه الطفلة هي دون شك بداية حدث عظيم.

وحضر بعدئذ اقارب يواكيم، جاؤوا من وادي زبلون لتهنئة الوالدين وإلقاء نظرة على الطفلة المميزة.

جميع من حضروا للتهنئة تناولوا الطعام في منزل يواكيم.

< الطفلة تدعى مريم

بعد مرور 20 يوماً على ولادة الطفلة، دعا الوالدان جميع الاقارب والجيران للمشاركة في حفلة اطلاق اسم على المولودة الجديدة.

فتحت غرفة كبيرة وضعت فيها طاولة مغطاة بشرشف . وجرى توزيع الصحون والزجاجيات عليها. كما اقيم بجانبها مذبح وعليه غطاءان: احمر وآخر ابيض. ووضعت التوراة في وسطه.

حضر اقارب يواكيم وحنة والعديد من الجيران وكهنة الناصرة ارتدوا لباس الكهنوت الرسمية. وقامت آنيو، شقيقه اليزابيت بنقل الطفلة التي البست ثياباً جديدة الى والدها الذي وضعها بدوره على المذبح، داخل مضجع.

وبدأ الكهنة بتلاوة الصلوات. ثم قام كبيرهم بقص شعيرات من جانبي رأس الفتاة ووسطه. ثم تناول وعاءً صغيراً فيه زيت مقدس وقام بمسح حواس  الطفلة الخمس. مسح اذنيها وعينيها وانفها وفمها وقلبها.

واحرقت الشعيرات في مجمرة للفحم مشتعل. خلال هذا التكريس اطلق اسم «مريم» على الطفلة. وقفت النساء على مسافة من المذبح بينما تقدم الرجال حوله.

وبعد الانتهاء من تسمية الطفلة، مدت النساء الاطعمة التي كانت اعدت مسبقاً على الطاولة، وبدأت الاحتفالات بالمناسبة طوال ساعات. اليوم اطلق رسمياً اسم مريم على الطفلة. كذلك سيحدث لاحقاً مع زكريا عندما كتب على لوح: سيدعى الطفل يوحنا.

< الاستعداد لنقل مريم الى الهيكل

مريم اصبحت اليوم في عمر 3 سنوات و3 اشهر، لكنها بدت وكأنها في الخامسة او السادسة من عمرها. شعرها الذهبي يميل الي التجعد.

المنزل اليوم في حلة العيد. حضر خمسة كهنة من الناصرة وقرى الجوار، من ضمنهم زكريا وابن اخ حنة. كذلك حضر العديد من الاقارب والجيران.

يطلب من الكهنة اجرآء فحص لشخصية مريم للتأكد من اهليتها كي تصبح مكرسة في الهيكل.

بدأت المراسيم بقيام احد الكهنة بقص لباس الطفل لتعيد بعض النسوة خياطته وجمعه مجدداً.

خلال هذه المراسيم هيمنت اجواء رسمية وجدية على المناسبة. اعدت حنة ثلاث ألبسة جرى تغييرها على مراحل.

وضع مريم على المذبح الذي رسمت عليه صورة موسى. وكانت ترتدي وشاحاً تستعمله خلال الصلاة والى جانبها الألبسة الثلاث.

دخل الكهنة الغرفة وبدأوا باختبار الفتاة. حمل احدهم   الألبسة وشرح رمزيتها للحاضرين.

ثم بدأت عملية طرح الاسئلة التي تتعلق بمجملها بالقوانين المطبقة داخل الهيكل على الفتيات.

وبدأ احد الكهنة بالقول. ان والديك نذراكِ للهيكل. من الآن وصاعداً لن تشربين الخمر او الخل، لن تأكلين العنب او التين. وسأل الطفلة هل لديك من اضافة على ذلك. فكري ملياً قبل الاجابة.

ثم وضع اللباس الثاني على الطفلة وكان ازرق اللون. وقام احد الكهنة بوضع حجاب على وجهها. وقيل للطفلة: لن تنزعي هذا الحجاب إلا عند الطعام او الاجابة على الاسئلة. ثم نقلت مريم الى طاولة الطعام وجلست بين كاهنين وثالث جلس مقابلاً لها.

خلال الطعام كان الكهنة يشرحون للطفلة كيفية استخدام الحجاب، مذكرين اياها انها لا تزال قادرة على تناول ما تشاء من الاطعمة. وكانوا يقدمون لها اطعمة مختلفة لاختبار قدرتها على التحكم برغباتها. لكن مريم اثارت اعجابهم بحسن تصرفاتها واجاباتها على اسئلتهم. وكانت تجيب ببساطة وحكمة.

وقالت إيميريتش انها رأت ملائكة تحلق حول مريم يوجهون سلوكها ويساعدونها على حسن الاجابة.

بعد تناول الطعام، جرى تبديل لباس مريم للمرة الاخيرة. ووقفت الى جانب المذبح يحيط بها عدد من الفتيات. هناك جددت مريم تصميمها على الامتناع عن تناول اللحوم والاسماك والحليب والاكتفاء بتناول الماء المطعم بالاعشاب. وتعهدت مريم بالامتناع عن تناول الفواكهة والبهارات ما عدا نوع من ثمار «العليق» الذي يتناوله عادة الاطفال والفقراء.

وقالت ايضاً انها ستفترش الارض وتنهض ثلاث مرات خلال الليل لتأدية الصلوات.

عند سماع هذه التعهدات بدأ يواكيم وحنة بالبكاء، واحتضن يواكيم ابنته قائلاً «ابنتي، هذا تقشف قاس فإن تممت كل هذه الامور، فأنا لن اعيش لأراك مجدداً».

لكن الكاهن شجع مريم على الالتزام بقراراتها. وذكرها ان العذاري غالباً ما يطلب اليهن غسل لباس الكهنة الملطخة بدماء الاضحية، لكن سيجرى اعفاء مريم من هذا العمل لأن والداها يقدمان الاضاحي باستمرار للهيكل. لكن مريم اجابت انها على استعداد للقيام بهذا العمل ايضاً.

وتقول إيميرتش ان مريم تراءت لها وكأنها ممشوقة القامة وترتفع في الفضاء فوق رؤوس الجميع ومن ضمنهم الكهنة. وادركت ان هذا مؤشر على النعم والحكمة التي تميزها عن الآخرين، الأمر الذي اثار دهشة الكهنة.

في النهاية، بارك الكهنة الطفلة مريم فبدت مشعة بنور خفي. ثم وضعت على المذبح وقام الكهنة بتلاوة صلوات عليها ومن اجلها.

وبفعل البركات تحولت مريم كشخص شفاف، لما فيها من نعم ومجد. ورأيت قلب مريم مفتوحاً مثل بوابة الهيكل واصبحت كتابوت العهد الموضوع في قدس الأقداس.

واحسست ان زكريا تلقى وحياً داخلياً ان مريم هي الوسيلة المختارة للأسرار الإلهية.

وفي اليوم التالي بدأت الرحلة نحو الهيكل، حيث امضت 12 عاماً وكانت مميزة في سلوكها وحياتها وتصلي من اجل مجيء المسيح المخلص.

الخاتمة :

اردت في كتابي هذا تسليط الاضواء على كيفية حدوث «فعل الحبل بلا دنس» الذي يجد كثيرون صعوبة في ادراكه.

ان العذراء مريم كانت منذ البداية موجودة في التدبير الإلهي. ألم يعد الله آدم وحواء ان امرأة من نسلهما ستسحق رأس الأفعى! انها العذراء مريم  التي لا تزال وستبقى حتى مجيء المسيح الثاني تسحق رأس الشيطان وتحاربه حفاظاً على شعلة الإيمان الصحيح رغم كل المخاطر.