اعتبرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز في أحد أعدادها شارع الحمرا في بيروت آهم منطقة متحررة من لبنان حيث يجتمع به مختلف أطياف البشر من مختلف الأديان والطوائف.
تطور شارع الحمرا وسط بيروت تسارع مع بدء تأسيس الجامعة الأميركية وأصبح في وقت من الأوقات أشهر من المدينة.
لكن الشارع تغيّر كثيراً، ولم تعد مشاهده شمساً فكرية وفنية تضيء الشرق، بل باتت تئن تحت طقوس هجينة صادرت دور الشارع وشوّهت ملامحه.
مقهى “كافيه دو باري” الذي كان يرتاده الشعراء منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي وحتى تسعينياته مع عشاق “القصيدة” التي كانت تنطلق من طاولة في زاوية المقهى وتعبر من المحيط إلى الخليج، أقفل إلى غير رجعة بعد أن تحول إلى محل تجاري، مفرقاً “عشاق” الكلمة إلى أماكن أقل دفئاً حيث تحاصرها واجهات الثياب العصرية و”ثقافة الاستهلاك” ، والمثقف الذي كان يحمل جريدة “النهار” تحت إبطه اختفى وانزوى في بيته، ليحتلّ كرسيّه ملتحٍ آخر يضع المسدس الى خصره الأيسر “لأن اليمين ممنوع”!!؟
وحال مقهى “كافيه دو باري” لا تختلف عن مقاه أخرى سبقته إلى الإقفال في أواسط عقد تسعينيات القرن الماضي. فمقهى “ويمبي” الشهير أصبح أثرا بعد عين وواجهة تجارية، ولحق به مقهى المودكا.
وسبقهما إلى الشهرة والإقفال مقهى “هورس شو” الذي انطلق عام 1959 كأول مقهى رصيف في الشارع وتحول إلى أهم ملتقى للمثقفين اللبنانيين والعرب على اختلاف مشاربهم وعقائدهم وأحلامهم، ثم مقهى “إكسبريس” و”مانهاتن” و”نيغرسكو” و”إلدورادو” و”ستراند”، ما عدا مقاه وحانات أخرى دخلت في طي التاريخ والماضي الجميل.
ويقول الشاعر شوقي بزيع إن شارع الحمرا قبل الحرب الأهلية (1975-1990) كان شارعاً نخبوياً و”ذاكرة المدينة وخزانها وروحها”، مبديا أسفه “لانتهاكه من المعادن غير الإنسانية”. ويضيف أن المدينة “لم تعد تشبه نفسها، والشارع هو تعبير عن المدينة، وهذا الإناء ينضح بما فيه”.
فالشارع بات تعبوياً وتحريضياً وانتهاكه لم يشمل فقط مقاهي الرصيف على جانبيه، بل أصاب أكشاك بائعي الصحف والكتب، فتراجع نشاط الباعة ونهم القراء.
شارع الحمرا في بيروت، الذي تحول إلى بيت لمحمد الماغوط ومحمود درويش وعمر أبو ريشة وإنسي الحاج ومحمد الفيتوري ونزار قباني وبلند الحيدري وغيرهم المئات من الكتاب والشعراء والأدباء اللبنانيين والعرب، أصبح أغنية “سياسية عاطفية” مشهورة غناها الفنان خالد الهبر، وأخرى أدتها المطربة صباح، وفي رحابه احتفت بيروت بدرويش شاعرا للمقاومة.
ومع الوقت تراجع وهج الأغنية أمام أناشيد “حقائدية”، عفواً، عقائدية، ألزمت كل ما هو جميل على مغادرة الشارع.
الشارع الذي جمع تناقضات قد لا تكون موجودة حتى في أرقى شوارع أوروبا “الشانزيليزيه” و “نوتردام”، حيث تجتمع مقاهي المثقفين والكتّاب، لم يكتفوا باغتصابه في 7 أيار 2008، ها هم اليوم يستبدلون يافطات آخر الأفلام والمسرحيات بشعاراتهم الحزبية وأصوات باعة الكتب الحديثة بصراخ “طار راسك يا بشير وجايي دورك يا سمير”؟! ليقتلوا نزار ودرويش والفيتوري مرّتين.
شارع أكبر سوق للجواهر في الشرق الأوسط ، لا تجد فيه إلا الصدأ.