وديع  شامخ

رئيس تحرير مجلة «النجوم»

لم يكن الفرح العراقي بمنأى عن الهزات التي تحدث في دهاليز السياسية في العراق وإيران بعد أن كشر النظامان الأيراني والعراقي عن أنيابهما في حرب ضروس أكلت الاخضر واليابس دامت ثمان سنوات من الخراب والدمار المادي والنفسي، وكنّا في الكلية آنذاك نتحسس طعم المرارة الكامن وراء الإنتصارات الوهمية لنظام صدام الذي جند العراق وعَسكر المجتمع، حيث تحول العراق الى ساحة حرب حقيقية طالتنا نحن الطلبة بشررها، فلم يعد فرحنا كما كان ولكن ياسين وأنا وكريم وعادل ونخبة من الزملاء والزميلات استمرينا بصنع حياة بديلة، حياة نمنحها الكثير من المرح والدفء، فكان ياسين لا يكف عن خلق الكوميديا وأنا ابادله صناعة كوميديا الموقف،.

رغم الوجه الكالح والكاكي للحياة في البصرة ولكننا استطعنا من خلق المعادل الموضوعي وهو فن صناعة الحب والأمل والفرح عبر ابتكار أساليب للتمتع بالحياة بشكا أكبر، فكنّا السباقين الى المشاركة في نشاطات الكلية ومنها الرحلات حيث نكون من ابرز المشاركين الفاعلين فيها، سفرات الى أثل الزبير وبساتين ابي الخصيب واهوار القرنة وغيرها من الأماكن التي نقصدها بحثا عن الجمال والفرح.

ما كان يميزنا حقا هو الإحتفاء بالبراءة والإنتصارللفرح الكامن فينا.

وهنا لا بد من استدعاء الذاكرة لحضور شهود على هذه المرحلة إذ كنّا نزور كليات أخرى ويزورنا أصدقاء من معاهد وكليات فكان من الظرفاء آنذاك جبار طه عودة وهو شقيق ياسين، إذ كان ناشطا في مجال الكوميديا وكنا نحضر له احتفالات في كلية التربية، كان جبار يصنع الفرح بطريقة رائعة حيث يقوم بأداء وصلات كوميدية للتعليق على أحداث ساخنة.

ومن شريط الذكريات أيضا علاقتي بطلبة كلية الآداب التي تشاطرنا نفس الموقع، لقد زودني هؤلاء الاصدقاء بشحنة غير طبيعية في جنون الأدب كعقيل سيد زيارة وثجيل، والراحل رعد كوران وغيرهم الكثير من تشتتوا في أصقاع ذاكرة الوطن.

كما كان لزيارات الاصدقاء من كليات ومعاهد مختلفة لنا الأثر الطيب في ذاكرتي، وهنا أتذكر بحب الدكتور سعد صلال وغسان السعد ورحيم كرين حيث كنا نقضي اياما مترعة بالجمال والحب.

ولكن المفصل المهم في حياتنا الجامعية كان وصول الحرب الى مقاعد الدرس حيث كان قرار «القيادة« بدخول الطلبة في معسكرات للتدريب في العطلة الصيفية ومن ثم ترحلينا الى جبهات القتال… وكان معسكر « ابو صخير « هو الدرس الأول لذبح برائتنا، هناك حوّلونا الى وحوش نابحة وضحيا قادمة كمشاريع إستشهاد دائم !!

لم أزل اتذكر سخونة الرمل على أجسادنا العارية، وقسوة النقيب الفلسطيني المشرف على تدريبنا.. ومع ذلك فقط كانت لنا ومضات مشرقة في سرقة لحظات الحياة من هذا العماء.. اتذكر بحب صديقي كريم كاظم الذي يشاطرني نزوة احتساء الكحول فكنا نملأ « الزمزمية « بالكحول بدل الماء ونقتنص لحظات هاربة للتمتع بالحرية.

كم كانت الحرب قاسية حين استبدلت الحياة بالموت، واستبدلت الزي الجامعي بزي الجنود.. لقد تحولت حياتنا الى «الكاكي» والـ «الزيتوني»، حتى بلغت ذاكرة العراق مداها في التيه.. شعب يركب قاربا مثقوبا.. إنها الحرب إذن.

الحياة تسير على عكازة الحرب ونحن نرفعها بحبورنا بالحياة.. نقتنص اللحظات الشاردة لنصوغ الفرح أبجدية ضد الحرب.

كنّا صبية نتداول الموت على مشارف جزيرة «أم الرصاص» نلبس حرير النوايا ولا عدو لنا.. هناك تناهبنا «البق» قبل الرصاص..، ومنذ ذلك تحايلنا على الموت فمسكنا برقبته انا والراحل يسر كريم ورعد صلال ونخبة طيبة من طلبة كلية الادارة الاقتصاد المودعين على حافات المياة.. حيث كنا نعالج البعوض والحشرات ببلسم مخصوص.

في لحطة مارقة جدا، كان القناص الايراني خبيثا جدا ُصوّب لقلب «منير» وأدركه طلقة واحدة أسكتت حلمنا.

وأدرك الموت يومنا. فلا حاجة لشهريار ولا لشهرزاد.

يا سين أيها الصديق البعيد القريب، كيف نرمّم الحكاية..

لا شك اننا نمسك بالمرأة ونعيد لوجوهنا هيبتها المجعدة..

نتذكر كثيرا كي لانصاب بجذام وقحط.

ياسين صديقي الامير..

سوف يكون لنا حكايات آخرى.. بوح يسقط اسطورة الشمس