تعرفنا في الأسبوع الماضي، إلى جانب كبير من جوانب حياة وشعر وأدب الشاعر ميخائيل نعيمة، ولكن، وحسب وعده لنا بإكمال الحوار معه، فإننا نطرق باب قبره في الشخروب ونوقظه.
قلت: سلام عليك يا ميخائيل.
قال: وعليك السلام.
قلت: بدأت حياتك الأدبية كاتباً للقصة، حيث نشرت عام 1914 مجموعتك القصصية الأولى، بعنوان «سنتها الجديدة»، وفي 1915 نشرت قصة «العاقر»، ولكنك انقطعت عن كتابة القصة أكثر من ثلاثين عاماً، لماذا؟
قال: نعم.. كتابي القصصي الثالث كان في عام 1946، ولكن قمة ما أصدرت من قصص، كان بعنوان «مرداد»، الذي نشر عام 1952.
قلت: لماذا قلت عنه إنه قمة ما أنتجت من قصص؟
قال: في «مرداد»، وضعت فكري الفلسفي، ونظرتي للحياة والوجود، كان بالفعل مرآة لما في داخلي من فكر وفلسفة.
قلت: ولكنك في عام 1958، أي بعد ست سنوات فقط، نشرت قصة «أبو بطة»، وهذه القصة صارت مرجعاً مدرسياً وجامعياً للأدب القصصي اللبناني العربي المتوجه إلى العالمية.
قال: لا تنسَ أنني أصدرت قبله مجموعة قصصية بعنوان «أكابر»، التي رأي النقاد أنها تقابل كتاب النبي لجبران خليل جبران.
قلت: حتى قبل ذلك في سنة 1949، أصدرت روايتك الوحيدة بعنوان «مذكرات الأرقش».
قال: ولكن لماذا تركز على إنتاجي النثري دون الشعري، وأنت كما أخبرتني تبحث عن حياة الشعراء وشعرهم؟
قلت: لأنك جمعت بين الحسنيين، الشعر والنثر، فلك، بالإضافة إلى المجموعات القصصية والرواية، العديد من الدراما والمقالات والنقد والرسائل، حتى وصل عدد كتبك النثرية إلى أكثر من عشرين كتاباً، بينما ليس لك إلا ديوان شعري واحد في حياتك، هو «همس الجفون».
قال: وهل قرأت هذا الديوان؟
قلت: لم آتِ إليك إلا وأنا مسلح بكل ما خلفت لنا من شعر ونثر.
قال: وكيف رأيت شعري؟
قلت: الغريب أنك أصدرت مجموعتك الشعرية الأولى «همس الجفون»، بعد عودتك من المهجر إلى لبنان. أصدرت هذا الديوان عام 1945، وعشت حتى عام 1988، دون أن تنشر ديواناً آخر.
قال: أنت تراوغ، ولا تجيب عن سؤالي، ما رأيك بشعري الذي قرأته في ديواني «همس الجفون»؟
قلت: شعرك يا سيدي هو شعر التأمل، الذي يغوص في أعماق النفس، ويصورها بمختلف حالاتها.
قال: وهل هو صعب الفهم؟
قلت: بل فيه درجة عالية من السلاسة والجاذبية، خاصة في قصيدتك «النهر المتجمد»، التي قدمتها لنا في لقائنا السابق.
قال: «النهر المتجمد» فيها تأمل للطبيعة، والنهر كان بمثابة الرفيق لي، أهمس له بمشاعري، وأبثه ما أعاني منه وما أعشقه.
قلت: أهم ما لاحظته وأنا أقرأ شعركم، هو أنك في كل قصيدة تركز على موضوع واحد، وكأنها رسالة للعالم، تشرح وجهة نظرك في موضوع محدد.
قال: الوحدة الموضوعية، تعتبر تطويراً هاماً للشعر العربي.
قلت: أحب أن أقرأ لك بعض ما قاله الناقد فضل سالم العيسى.
قال: يمدح أم يذم.
قلت: لا يمدح ولا يذم، بل هو كلام موضوعي.
قال: فماذا يقول؟
قلت: يقول:
«همس الجفون»، هو عنوان يمشي بفلسفة ميخائيل نعيمة، ويعبر عن التراسل بين النطق والإبصار، فما دام الجفن حارساً للعين، فلا بدّ أن تناجيه عندما يسدل أهدابه، لتهمس له بأسرارها، وربّما كان السر الذي أرّق شاعرنا كثيراً، هو سر هذه الروح التي تعجز الحواس عن فهم كنهها، لذلك نجده يغلِّب نور البصيرة على البصر، إنها دعوة لتجاوز عالم المحسوسات إلى ما وراءها، حتى ندرك عالماً مختلفاً، ونوراً يرينا الدواء في الداء، هذه هي الفلسفة التي عبر عنها الشاعر ميخائيل نعيمة في قصائده.
قال: أوافقه على ما قاله.
قلت: أيها الشاعر العظيم.. أتريد أن تسمع وجهة نظري بك وبأدبك الرائع؟
قال: قل ما شئت.. فإنني أسمع.
قلت: تتباهى الأمم بشعرائها وكتابها، ونحن كأمة عربية، نفتخر بك أيها الأديب الشاعر، فأنت مدرسة إنسانية، وديوانك «همس الجفون»، كان تجديداً في الشعر العربي، وكان رؤية عبقرية للوجود وللنفس البشرية.
قال: ليتني سمعت ذلك قبل موتي، أنتم العرب لا تتذكرون الشاعر أو الأديب إلا بعد موته، فما نفع وردٍ فوق قبري ينثر؟
قلت: لديك الحق، ولكننا الآن في دولة الإمارات العربية المتحدة، تخلصنا من هذا التقصير، وصرنا نكرّم الأدباء والشعراء والعلماء، وكل صاحب عطاء في حياته، وفي مماته أيضاً، وكختام لهذا اللقاء، اختر لنا قصيدة من قصائدك.
قال: سقف بيتي حديد.
قلت: تفضل.