جوسلين شربل بدوي

منذ بدء الأزمة المالية والمصرفية التي عصفت في لبنان، كنت أطلق دائماً على حاكم مصرف لبنان رياض سلامه عند تسميته إسم رياض مادوف. ولكن كنت دائماً أتردد في كتابة هذا المقال إلا أنه طفح الكيل ولم يعد السكوت ممكناً، خصوصاً عند زيارتي للبنان بعد انقطاع دام أكثر من سنتين بسبب جائحة كورونا، و قد لمست عن قرب معاناة الناس  و المرارة والقهر والظلم اللذين لحق بهم جراء السياسات المالية والنقدية الفاشلة التي أدت الى حجز وسرقة جنى عمر المواطن اللبناني في المصارف.

لماذا هذا اللقب بالذات، رياض مادوف؟؟؟ ليس إلا تيمناً ب Bernard Madoff، ولمن لا يعرف من هو برنارد مادوف، إليكم نبذة قصيرة عن حياته.

برنارد مادوف من مواليد ١٩٣٨ هو مستشار استثماري، ممول، رجل أعمال، ومصرفي أميركي كما هو الرئيس المؤسس لإحدى الشركات الإستثمارية الرائدة في وول ستريت “شركة برنارد مادوف للإستثمار في الأوراق المالية” التي أنشئت عام ١٩٦٠ و الأهم أنه أكبر محتال مالي معترف به في تاريخ العالم والولايات المتحدة .

كان مادوف قد اتهم بالإحتيال للإستيلاء على نحو ٦٥مليار  دولار  من أموال المستثمرين في الصناديق الاستثمارية التي كان يديرها، من خلال جذب مودعين وخلق حسابات وهمية لإقناعهم بإمكانية تحقيق أرباح مرتفعة، بينما كان يقوم قي واقع الأمر بإعطائهم أرباحاً  من حسابات مستثمرين قدامى. فكانت أرباح وهمية، غير حقيقية، و غير ناتجة عن استثمارات حقيقية، فلم يستثمر مادوف في شركته بدولار واحد.

إستهدفت عمليات احتيال  مادوف ٣٧٠٠٠ شخص في ١٣٦ دولة  على مدى ٤ عقود،  قبل أن يتم اعتقاله عام ٢٠٠٨ و تجميد كافة أصوله،  بتنفيذ أكبر عملية إحتيال عرفت بإسم بونزي” Scheme” كما عرف بنصاب القرن و العقل المدبر لأكبر عملية احتيال استثماري في تاريخ الولايات المتحدة، فحكم عليه بالسجن لمدة ١٥٠ عاما، و مات في سجنه عام  ٢٠٢١

إليكم أوجه وجهات التشابه بين برنارد مادوف أمريكا و رياض مادوف لبنان :

 ١- مادوف أمريكا وصف بأنه  العقل المدبر لأكبر عملية احتيال استثماري في تاريخ الولايات المتحدة، أما مادوف لبنان فهو العقل المدبر والمنفذ والذراع المالي لكل المنظومة الفاسدة وحيتان المال اللذين استفادوا من هندساته المالية العشوائية التي مولت فسادهم.

٢ – أصبحت شركة برنار مادوف من أكبر شركات الوساطة  والمعاملات السوقية و ادارة الثروات بين مشتري الأسهم وبائعيها، وأصبح مصرف  لبنان  الصندوق الأسود و أكبر صندوق مال يتحكم بأموال الخزينة وأموال المصارف والمودعين لتأمين المال السياسي، و بالطبع بتغطية من المرجعيات الكبرى عن طريق المنافع والخدمات والقروض  والمحاصصة .

 ٣- مادوف أميركا اتبع طريقة الاحتيال الهرمية التي تقوم  على أخذ المال من زبائن جدد ليوزع  ارباحاً للمستثمرين القدامى. فكانت شركته تدفع مبالغ مضاعفة للمستثمرين لكن لا تدفع تلك الأموال من ارباحها في البورصة او غيرها من الاستثمارات، إنما كانت تدفع  من أموال المستثمرين الجدد إذ كان المودع يجهل باي وسيلة كانت شركة مادوف تجني هذه الأرباح. حتى ان المستثمرين الذين تضاعفت أموالهم يعودون لاستثمار المبلغ الجديد كاملاً للحصول على ربح اكبر . فكان يوهم المودعين بانهم ربحوا اذ يعطيهم جزءاً من اموالهم المستثمرة على انها أرباح ليجعلهم يطمعوا بالمزيد ويتركوا اموالهم عنده. أما  مادوف لبنان صاحب الهندسات المالية العشوائية الشهيرة اتبع ذات طريقة مادوف التي تقوم على أخذ أموال المودعين من المصارف وإعطاء المصارف  فائدة خيالية توازي ٤٠٪ مقطوعة من رأسمال المودع. (بمعنى من دهنه سقيلو) مما أدى الى تضاعف اموالهم خلال سنتين و التيًُ ذهبت أرباحاً طائلة الى جيوب اصحاب المصارف والمساهمين فيها، فيما المودع تبخرت وديعته.

٤- انهارت الأمور في عام ٢٠٠٨ عندما عصفت أزمة مالية بالولايات المتحدة مما اصاب ذعر المستثمرين فتهافتوا لاستعادة اموالهم، هنا كانت المفاجأة إذ لم يكن لدى مادوف أمريكا ما يكفي من المال لتغطية عمليات السحب المطلوبة. ببساطة لأن الجميع يريد سحب أمواله خوفاً من خسارتها، كما اصبح من غير الممكن العثور على مودعين جدد. عندها انهار النظام المالي كله و فضح أمر مادوف امريكا ولم ينج من اثاره الا الذين سحبوا ودائعهم مبكراً .

في ١٨ تشرين الأول ٢٠١٩  أغلقت المصارف اللبنانية ابوابها أمام المودعين لمدة ١٢ يوماً،  و من بعدها تمنعت من دفع السحوبات بالدولار الامريكي مما زعزع ثقة المودع بالمصرف. عندها انفضح أمر  مصرف لبنان اذ لم يكن بمقدور مادوف لبنان من تغطية السوق بالدولارات فانهار القطاع المصرفي والمالي والنقدي. المودع الذي وثق بالمصرف ثقة عمياء لم يكن يعلم بالمؤامرة التي حيكت ضده  بين المصارف و  مصرف لبنان و بان جنى عمره و تعويض نهاية خدمته من العمل أصبحا بتصرف حاكم مصرف لبنان الذي بدوره بدد هذه الودائع. فمادوف لبنان هو الشاهد و الوسيط لعملية النهب المنظم عبر صفقات و سمسرات و سرقات في معظم القطاعات والمؤسسات في ظل تفشي الفساد والغش وغياب المحاسبة.

٥- مادوف أميركا كان يمتلك شخصية استثنائية مقنعة ولسان لبق مكناه من كسب ثقة العملاء من كبار البنوك العالمية و مؤسسات و أمراء و مشاهير دوليين و رأسماليين حول العالم منهم الرئيس دونالد ترامب مما ساهم في تنفيذ أكبر و أضخم جريمة مالية في التاريخ.

أما مادوف لبنان كان يتحفنا سنوياً  بالجوائز العالمية التي ينالها بانه أقوى حكام المصارف المركزية العالمية كما كان بحنكته يتباهى بالحفاظ على سعر صرف الدولار وتثبيته.  كما ان لا أحداً على الأراضي اللبنانية يستطيع ان ينسى مقولته الشهيرة” الليرة اللبنانية بخير”وأنها لاتتأثر بالازمات السياسية والاقتصادية، وان البنك المركزي مرتاح الى وضع الليرة اللبنانية وهو متحكم بالسوق.  مما زادت ثقة اللبنانيين بالليرة وبالدولار وبالمصارف.  فناموا على حرير  ليستيقظوا ويجدوا أنفسهم مخدوعين على أبواب المصارف، يشحذون جنى عمرهم الذي يتبخر يوماً بعد يوم كما يتلقون أسوا المعاملة من قبل المصارف و مدرائها و موظفيها. مما ساهم في تنفيذ أكبر جريمة مالية في العالم و أضخم عملية سرقة في التاريخ لشعب بكامله.

٥- قصة مادوف اميركا تقارب ٣٥ عاماً من الاحتيال. فبناء الثقة بين الشركة والزبون تتطلب سنوات عديدة ليظهر خلالها حسن النية والأمانة ويجذب المودع وعندما يتمكن من غشه ينقض عليه كالفريسة. أما قصة مادوف لبنان تقارب ٣٠ عاماً من التملق والكلام المغشوش.

٦- اعتبر مادوف اميركا اكبر رجل مكروه في اميركا  بسب عشرات الآلاف الذين خسروا ثرواتهم مما ادى لانتحار عدد منهم بسبب حجم خسارتهم. و من المؤكد ان مادوف لبنان هو اكثر رجل مكروه و مبغوض في لبنان لحجم الخسارة الهائلة التي تكبدها  اللبنانيون جراء سياسته المالية الفاشلة وعقب تسهيل سرقة أموال المودعين، لقد تسبب في افقار  الشعب اللبناني بكامله.  هذا هو مادوف لبنان المتواطئ مع ثلاثية: السلطة السياسية،  المصرف المركزي و كارتل المصارف. والذي كانت له اليد الطولى باستدانة أموال المودعين من المصارف لتمويل دولة مفلسة بكل معنى الكلمة.  قصة مادوف أمريكا انتهت ودخلت التاريخ و حتماً قصة مادوف لبنان ستدخل التاريخ و لكن كيف ستنتهي ؟؟

في هذا الإطار  يتهم رياض سلامة، ولكن هل تقع المسؤلية بالإنهيار المالي والمصرفي على عاتقه وحده؟؟

إنما برفع الغطاء عن رياض سلامه رؤوس كبيرة ستتدحرج و هياكل  ستسقط.

               يتبع