«لئلا يداهمني النسيان، وينخرني العدم، نفضت سجادة أيامي، لملمت أطرافها، ناسجة ما تهرأ منها. نفخت رماد تفصيلات خمدت جمراتها ولم تزل تخزني.. تلسعني بلظى حرقة مستعرة لا تنطفئ.. أتصالح معها أحيانا، أرسم بظلال الكلمات زهور بساتين، وطرائف حكايا، وأقطف منها فاكهة الذكرى، إذ يصبح التذكّر بلسما حين تحل النكبات وتتربع الرزايا،
سعيت لنشرغسيل الماضي على حبل الذاكرة، بعدما طلقت العالم الصاخب بالثلاث».
بهذه السطور الصادمة تطالعنا الكاتبة منى سعيد، وهي تروي قصة حزن عراقي مديد، في كتابها السيري «جمر وندى.. فصول من سيرة ذاتية» الصادر مؤخرا عن دار سطور في بغداد.
……
أعرف عن منى سعيد ما يعرفه الكثيرون الذين عرفوها بسيرتها العطرة، كاتبة وإنسانة، ولكن الذي لا أعرفه هو ما دونته منى الطاهر في كتابها الجريء جدا في طرحه، والمترع بتفاصيل تأريخ الأسى الشخصي والعائلي لمنى، وللمجتمع العراقي عموما..
فهي تبهرنا بعنوانها كقابضة جمر، ومبللّة بالندى معا، فعن أي جمر، وندى تتحدث شهرزاد العراقية؟
أعلن أن كتابها السيري يستعير من الحكاية الإطارية العامة لألف ليلة وليلة روحا ومناخا للبوح، وتحديدا في علاقة الراوية الضحية المحتملة، بشهريارات آلامها.
فهي استعارت قناع شهرزاد لتروي لنا وقائع، وحكايات تكشف عن الطابع المدني للشخصية العراقية في ظل حكومات بالغت في بدويتها في الجانب الأمني، وسقطت بيد عصابات حزبية، وعشائرية شوهت مفهوم إدارة الدولة العراقية، ونمطها الثقافي الراقي، وتفضح ممارسات النظام البعثي الفاشستي في الحياة العراقية منذ انقلاب شباط 1963 وهو العهد البعثي الأول وحتى العهد الثاني بعد 1968 وخصوصا في نهاية السبعينات، وبدايةالثمانينات، وهي فترة كانت حبلى بوقائع دراماتيكية على المستوى السياسي بعد انفراط الجبهة الوطنية، وبداية عهد الدماء والسجون، ولاسيما، وأن منى قد روت بدقة تفاصيل اعتقال زوجها الصحفي في جريدة طريق الشعب الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي « سامي «، وتعذيبه وتعذيب أفراد عائلتها حتى إعدامه أخيرا، ليكون شهيدا للشعب مثل الآلآف من خيرة شباب العراق الذين غيبتهم سجون، ومشانق النظام الصدامي..
كما تتجلى موهبة منى الطاهر في قدرتها على سرد الأحداث بطريقة كاتبة قصة محترفة تمتلك عمقا في الإحساس، ووعيا بتاريخ عائلتها، ومجتمعها، ولا غرابة في ذلك، فهي صحيفة محترفة، وكاتبة قصة ومتذوقة راقية للفنون والآداب، ومترجمة عن اللغة الألمانية، وهي تروي، فلا تحابي، ولا تكره، فهذه شهادتها عن فنان يعمل في جريدة تختلف عن خطها ومعتقدها الفكري، إذ تقول: صديقنا الوفي الفنان عامر رشاد الجليلي، برغم حساسية وضعه الأمني كونه يعمل (رسام كاريكتير ) في صحيفة حزب البعث المركزية « الثورة» آنذاك ، فإنه مد لنا يد المساعدة وجهَّز مكان الاختباء بماكنة « جراخة» الخشب، لتصنيع دمى خشبية لطيفة، عمل عمي حسن العتابي والمختبئون معه على نحتها وجرخها من الخشب، ثم رسمها وتلوينها بأشكال فلكلورية جميلة، مقابل أجور لا بأس بها».

إن قراءة هذا الكتاب أدخلني في معيار المحبة والعفة والمبدئية، وهي رائعة في تحويل المذكرات إلى مقاطع قصيرة كالتقاطات سينمائية، تجعل من الكتاب فيلما سينمائيا مُحكم البناء تأليفا وتمثيلا وإخراجا..
ولدى منى الطاهر تدفق، وصفاء ذهني، ومهنية وموضوعية في الطرح، إذ لم أجد عدوانية، ولا لغة متشجنة وهذا يدل على عمق ثقافي وتربية مجتمعية مدنية.
والكتاب سفر دراما، ومفارقات تقود فيها الطاهر سفينة الحياة الجامحة والمحاطة بأمواج غاضبة بحكمة الربان، ونزاهة النزاهة وصبر أيوبي خرافي..
أكملت هذا السفر التراجيدي المترع بحدائق الألم، وفجائع الحياة، ووجدت الكاتبة تتحلى بطاقة إيجابية، وببيرق عراقي لامع رغم أنها منجم عراقي للحزن، والتحدي..
كم أتمنى أن تتحول هذه الذكريات إلى مادة درامية للتلفزيون، أو السينما.
ولعل خاتمة عرضي السريع لهذا الكتاب سوف تكون باقتباس من شهادة « يمام « ابنة الكاتبة لتكون حلقة القراءة من الجيل الجديد، إذ تقول «وعلى مدى سنوات طوال كتبت أمي عن تلك الأحداث الصعبة، وتحدثت عنها بإسلوبها الشائق، ولطالما طلبنا منها أن تضعها في كتاب، لكن تلك المهمة كانت عسيرة ومؤلمة، لما فيها من استعادة لتلك الجروح، وفتحها بسكين ثلمة لا تحتمل ألمها. حتى جاء الوقت لتحبس بين جدران جائحة كورونا وتكلل استراحتها بعد التقاعد، والعودة إلى بيتها بعد سنوات السفر، وشفائها من مرض السرطان، فولد هذا الكتاب بفيض من البوح الصادق المبلل بندى شفيف من أحداث سعيدة، بهيئة سيرة حياة عائلة عراقية عاشرت حروبا مستمرة منذ ٦٠ عاما وأكثر… وقد جاء كتابها «كالدنبلة التي لابد لها بأن تفجر)، لكنه انفجار إبداعي جميل»».