أمان السيّد

لا أستطيع أن أمنع نفسي من أن تحزن على خال كان أوضح ما اتصف به، رقة القلب، والمشاعر، كان خجولا، وحساسا جدا، وفنانا مبدعا، في الديكور، والرسم، والخياطة، والطبخ، وكتابة الشعر، ولطالما حلقت بصحبته وقصصه إلى خيالات تثرى بنا، وأعتقد أن ما اتصف به من الحساسية والخجل جعله ينعزل وينأى بنفسه عن الكثير من الخلق، ليكتفي بصديق، أو بنفسه.. اليوم وأنا أسمع بنبأ موته، هبط كل ما مضى علي، جلساتنا في اللاذقية، صوته الهادئ، لثغة لسانه، ذوقه في التصميم، وترتيب كل شيء، وقبل ذلك كله، ما حبي به من الذكاء، والثقافة، حيث يحضر لديه الجواب سريعا، ومطولا، وغنيا.. رقة قلبه تلك، هي التي صرفته عن دراسة الطب التي استبدلها بالديكور في إسبانيا، واستثارة غضب أبيه عليه.. ولعلي أستحضر اللحظة من الأحداث ما سيتداعى، وسيتداعى بي فلا أحصيه، يوم أتى مقيد اليدين إلى بيتنا لأنه التقط على الحدود، فهو لم يكن خدم الجندية بعد، شعره الكث المجعد، بنطاله الضيق، وقميص الكاروهات الذي ارتداه حينها، وقد فتح بعض أزراره، كعادة فنان، وقادم من إسبانيا ومن بيروت حيث كان له مكتب رسم…
ذاك الخال، أعتب عليه، ولكن ما أكنه له من المودة يفوق عتبي بكثير..
وماذا بعد، أيتها المنافي.. ماذا بعد؟!

قد يكون غير محظوظ من له جار/ ة مثلي تهتم بتفاصيل سكان المكان، وهمومهم، وتكتبها، لا لتحولها إلى مادة قصصية تتباهى بها، كما يرى صاحب/ ة فكر محدود، بل لأن الإنسان وما يستثيره فيه المكان، وما يستثيره هو فيه تعنيني روحيا، وإنسانيا..

منذ أيام، وأنا ألاحق جاري جيمي بعيني، لأن إحساسا ما نحوه ينتابني، الرحيل.. كلنا سنرحل، لكن مفارقة الآخر هي التي تشق علينا.. لقد شاخ بشدة، وفجأة، ولكنه ما يزال يتقوى، ولا يبدي سوى أنه بخير.. أغبطه حين أسأله عن حاله، فهو بخير على الدوام، بذلك يجيبني، فأخجل من شكواي، وقلقي.. لكن رائحة خبز يحترق انبثقت من بيته، لقد نسيها الرجل فوق النار، ونسي نفسه، وتلك قد تكون أولى خطوات التلاشي من الحياة، واستطعنا السيطرة على الأمر..

في صباح اليوم التالي ارتد جاري شابا، ضحكاته تجلجل، وهي ترافق ضحكات امرأة لم أرها..
لقد عاد جيمي من التلاشي، حين زاره أولاده بعد سنة ونيف من الغياب!

سينيكا» الفيلسوف والمؤلف، والمسرحي الروماني يقول: المقنّع سرعان ما يستعيد طبيعته، ويعود إلى سيرته الأولى»، فمن يتظاهر بمزية من المزايا، ويبالغ في الظهور بها أمام الناس متباهيا، مزهوا، وإن كانت إقداما، أو علما غزيرا، أو ذكاء ثاقبا، أو أحاسيس مرهفة، أو فروسية في صيد النساء، أو غيرها، فكن على يقين أن تلك الصفات وغيرها تُعوزه بالفعل، ويعاني من فقر كبير فيها.

إن صاحب الشيم الرفيعة، والمناقب السامية، صاحبها الحق لا مدّعيها، ومنتحلها، لا يهمه مطلقا استعراضها أمام الناس، والتفاخر بها في كل لحظة، وحين، لأنه يمتلك فعلا تلك الشيم، والمناقب..
مثل إسباني مأثور يقول
“ النّعال الذي يرّن ينقصه مسمار!”..
….
ما سبق مقتطف من كتاب أقرأ للفيلسوف شوبنهاور …

ولك صديقي القارئ أن تقيس، وتقيس في عصر يموج ويموج، فيعلي القبيح، الفارغ، ولا يلتفت إلى من امتلأ بكنوز وذخائر تعب من أجل تملّكها طويلا… هنا حيث يُحتفى بثرثار مبهرج، ويجد ثريّ النفس والقيم نفسه غريبا..