نجمة خليل حبيب
سدني أستراليا
“أصف لغة الغياب مبدئياً بأنها لغة شعرية. . . تميل بدلاً من إبراز الشيء أو الموضوع المعاين والسعي إلى منحه درجة عالية من النصاعة والوضوح، إلى الحركة بعيداً عن الشيء، وتجنب إبراز تفصيلاته الجزئية، وإلى توجيه ضوء خفيف ظلي باتجاهه، لكن بقدر كبير من الانحراف عنه بحيث أن اللغة تمس المرئي عن بعد بلمسات رقيقة مواربة وتغيبه بطرق مختلفة بحيث يبدو أقرب إلى مرئي يكفِّنه الظل أو الضباب الناعم”(كمال أبو ديب)
وقد وقع اختيارنا على ديوان غسان منجد (قنديل لسَفَر الخريف) كونه يمثل أنموذجاً ناجحاً للغة الغياب، ولأننا من ناحية ثانية، لم نعثر على أي قراءة جادة في أدب الشاعر، اللهم إلا كلمة الياس العشي في حفل توقيع ديوانه الثامن بالنيابة عنه في النادي الثقافي، طرابلس- لبنان. واللافت، أن العشّي لم يكتب عن الديوان، بل عن صاحبه. يقول:
«اسمه غسان م منجد أتعبته الغربة وأضناه الحنين لأيام ملاح قضاها متنقلا على رؤوس أصابعه بين شوارع طرابلس وحاراتها القديمة ومدارسها العتيقة وبساتين الليمون المالئة بماء زهرها كل البيوت غير عابئة بانتمائها الطائفي ولا السياسي ولا الطبقي.
لقد تحول هذا الغسان الهادئ جدا الى عاصفة تحمل كل رياح التغيير وكل قواعد الثورة: ثوره على الجسد، ثوره على العمر، ثورة على الشعر. يقول أُمي رائحةً الحياةً ومائدة زيتون وخبز وزيت وياسمين أُمي نبيذ عمر وظل رغيف». (من مقتنيات الشاعر)
لذا ستحاول هذه الورقة الإضاءة على أدب غسان منجِّد من خلال قراءة في ديوانه الأخير المذكور أعلاه، علّها تسهم في لفت انتباه النقاد والدارسين العرب إلى هذه الطاقة الإبداعية الخلاقة التي لم تأخذ حظّها الوافي من الانتشار.
   وإذ نبدأ فبالعنوان، عتبة الديوان الرئيسية القادرة على أن تمدنا «بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته . . . [حيث] أنه يقدم لنا معرفة كبرى لضبط انسجام النص وفهم غموضه» . «قنديل لسفر الخريف»، صورة شعرية هي تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا. هي انتقال باللغة من كونها شيئاً محدداً ثابتاً إلى كونها طاقة إيحائية وبؤرة دلالية تحمل المعنى الرئيسي للجملة فتشيع في جسد النص إمكانات متعددة. لقد أنسن الشاعر الخريف، فخرج باللغة عن معناها القاموسي ونسب إليه فعل لا يكون إلا لعاقل، فهو يسافر ويحتاج في سفره إلى قنديل. ولم يخبرنا النص لماذا تحتاج الأنا المسافرة إلى قنديل، فغرق المعنى بالغياب، وبقي النص مفتوحاً على عدة تأويلات، كأن يرى فيها المتلقي العادي صورة بسيطة لشخص مسافر ليلاً بحاجة إلى إضاءة، ويرى فيه الناقد/ة الأدبيّ دستوراً تنويرياً يرشد الأُمّة إلى ما فيه خيرها وتقدمها، ويقرأه فيلسوف أو مفكر على أنه نزعة  شوبنهاورية (نسبة إلى شوبنهاور) إلى ما هنالك من قراءات. وبذلك يكون الشاعر قد خلق للقارئ/ة شبكة من الترابطات والدلالات لا يمكن أن تقلّص إلى دلالة قاموسية واحدة.
انتهج غسان منجِّد في ديوانه (قنديل لسفر الخريف) لغة الغياب، ويتجلى ذلك في عدة «إشارات إشهارية دالة على مستوى الشكل والتكثيف». وستتخذ هذه الورقة نماذج من هذا الديوان على أمل أن تقدم رؤية نقدية حول ملمح جوهري من ملامح الشعر الحداثي.
وإذ نبدأ فبقصيدة «الخريف الهارب» لنستدل بها على منهجية غسان منجِّد في تناوله الشعري، ومدى نجاحه في تحقيق شعرية نصوصه بتجنب إبراز التفاصيل الجزئية لموضوعه والاكتفاء ب»توجيه ضوء خفيف ظلي باتجاهه»:
– الخريف الهارب
أجيء وكأنني خريف هارب
أصطحب سمائي
ونجومي العابرة
ليس أمامي وقت
لأهرب من مأتم العاصفة
أنقش على رصيف الليل خيبتي
ليقرأ شتائي المعزوفة
على تشلّو الوقت الضائع
تتداخل في بنفسجتي
أحلام كواكبه
على دفاتر انتحاري
وتصورني كصورة مبهمة
آتية من طلاسم
هي أصغر من حقيقة
وأكبر من خيال… (ص. 9)
ينبئنا عنوان القصيدة أننا أمام لغة انزياحيه خرجت عن كونها علامة ثابتة الدلالة إلى كونها طاقة إيحائية خالقة حول نفسها شبكة من الترابطات والدلالات. فالخريف الهارب هنا، قد يكون كناية عن إنسان كهل، يقلقه ما يحمله له خريف عمره. أو هو ببساطة الفصل الزمني (الفصل الثاني من السنة الشمسية) فيكون سبب هروبه هو كآبته وحزنه على أشجاره التي تعرت وتحوّلت إلى عيدان منتصبة في الفضاء كالأشباح بعد أن كانت مزهوة بالأخضر الناضر في الفصل السابق (الربيع).
تبدأ القصيدة بجملة فعلية شُبِّه بها ضمير المتكلم المفرد (الشاعر) بخريف هارب، ويؤلف الفاعل البؤرة الدلالية في الجملة، فهو الذي يقوم بكل أفعال القصيدة (أجئ، أصطحب، أهرب، أنقش….) بحيث بدت القصيدة لوهلة أنها تقليدية كلاسيكية، ثم ما لبثت أن انحرفت نحو الغياب، ففي البيتين الثاني والثالث (أصطحب سمائي ونجومي العابرة) دخلت اللغة في الغياب «عن طريق الخارق، والمحال واللامعقول العصي على التصور والتخييل. ومثله البيتان التاليان (ليس أمامي وقت/ لأهرب من مأتم العاصفة). أما فيما يلي ذلك: (أنقش على رصيف الليل خيبتي/ ليقرأ شتائي المعزوفة/ على تشلّو الوقت الضائع…. حتى على دفاتر انتحاري) فقد تمثل الغياب في كسر هارمونية النص، حيث انتقل الشاعر فجأة من التشكي من ضيق الوقت، ومن النقش على الرصيف، إلى قراءة الشتاء، ومن الهرب من المأتم إلى الانتحار.
والجدير بالذكر أن هذه القصيدة إلى جانب غيبتها حققت تفجيراً باللغة تمثل في «عملية انزياح مستمرة لمعنى الالفاظ وإرجاء معرفة دلالتها التي تتغيّر مع كل تقدم في القراءة، فهي تبدأ بمجاز مرسل (حلمي نيزك) لتغرق بعدها بصور حسية تُستخدَم لخدمة غاية إنسانية هي لفت النظر إلى معاناة الطبقة المهمشة من المشردين الجائعين، وتكمن إبداعية القصيدة في جمالية التخييل التي حولت الموضوع العادي إلى نص يمتع ويلذ عن طريق جُملة من الصور البلاغية المبتكرة من مجاز واستعارة وتشبيه كمثل: (حلمي نيزك)، (ثرثرة الشوارع)، (كيس الشقاء)، وغيرها:
حلمي نيزك
يمر مرور الكرام
في ثرثرة الشوارع
وفي ظل حدائق المطر…
أمدّ يدي
لأتلقى عنوان التشرد
فتتبعني أرغفة الخريف
وتملأني برائحة السراب…
تقبلني وتعيدني
 إلى جمرة ليست جمرتي
وإلى ميناء مصلوب
في كيس شقاء
لفقراء الخريف الهارب (ص. 10)
وهكذا يستحضر غسان منجِّد فصلاً مغيباً من فصول الطبيعة، ليجعل منه موضوعاً للتأمل الفيزيائي في الوعي واللغة، وينتصب أمامنا على الورقة حاضراً حضوراً ناصعاً دقيق التكوين، وما يبقى منه، أو ما يبرز منه، هو بؤرة إشعاعية تمتزج فيه الدلالات المألوفة بالترابطات والرؤية الشخصية بالذات المعاينة وعالمها (أي يمتزج فيها العالم الخارجي بالعالم الداخلي): حلمي نيزك/ يمر مرور الكرام/ في ثرثرة الشوارع/ وفي ظل حدائق المطر…/أمدّ يدي/ لأتلقى عنوان التشرد/ فتتبعني أرغفة الخريف.
  * * * * *
لا تقتصر قيمة ديوان (قنديل لسفر الخريف) على جماليات وحداثة اللغة فقط، بل هو أيضاً حداثي في مواضيعه، فهو لا يتبع الأنواع القديمة الكلاسيكية من هجاء ومدح وفخر، وإنما ينحو منحىً تأملياً ذاتيا، وقد يجنح أحياناً صوب الاجتماعي، والسياسي، والوطني، وعلى رأسها جميعاً الحب والمرأة.
سؤال الذات- المنحى التأملي في الديوان
سؤال الذات تعبير اصطلاحي يطلق للدلالة على اتجاه شعري حديث جعل من الذات الفردية سؤاله الإبداعي وهاجسه الأساسي، فالذات تحضر في بعديها العاطفي الوجداني، والفكري التأملي. ومن خصائصه، استبدال أغراض الشعر القديمة بأغراض الشعر الرومانسي المتمركزة على الذات. والانفصال عن عالم الجماعة والناس والثورة على قوانينه، والتقوقع داخل عالم الأنا والذات والإنصات إلى عذاباتها، أو اللجوء إلى عالم الطبيعة او الغاب باعتباره العالم الأمثل الذي يرمز إلى الصفاء والعفوية والكمال، والحرية، والانطلاق.. والنزوع إلى التشاؤم والبكاء، والخزن، والقلق، والإحساس بالغربة والضياع، فضلاً عن التأمل الفلسفي الوجودي.. وتوظيف معجم لين رقيق، وصور شعرية تحتل فيها الذات والطبيعة مركز القول الشعري، واعتماد أسلوب سردي انفعالي، مع تبني نظام المقاطع أحياناً.
يتبع الشاعر في ديوانه هذا، المنهجية ذاتها التي اتبعها د. عبد المحسن طه بدر في الفقرة أعلاه، فابتعد عن كل أغراض الشعر القديمة من مدح وفخر وهجاء، واستعاض عنها بالشعر التأملي والغزلي. وقسّم قصائده إلى مقاطع في مواضع كثيرة، واعتمد أسلوب السرد الانفعالي. وفي أكثر من قصيدة تقوقعت الذات في عالم الأنا. يقول في مطلع قصيدة «الدخول في الذات».
أنا شاعر الوهم الجميل
وعشاقي مؤقتون
وطباعي فينيقية
ليس لها وطن
إلا في قصائدي
وفي قصيدة القيد:
أنا حديقة العمر
أنا نافذة الأمل
دروبي صبوات لحدسي
وسفر في شكوك…
ذاك السفر…
ونقرأ في قصيدة «الموت العابر» نزعة تشاؤمية ترى الوجود مجرّد عبثٍ، الموت فيه فطرة، ومساءلة طقوسه غامضة حائرة ما بين «شعاع توهج» و»غموض شمس حجبتها ظلال السماء». وتذكرنا القصيدة بنص تهكّمي لوديع سعادة يقول فيه: «الذين يكتبون عن البشر يرفسهم البشر لكني لم أسمع أن حماراً رفس واحداً لأنه كتب عنه. . . فهل يعني هذا أن الرفس، بسبب وبغير سبب، هو صفة ملازمة للبشر ؟ «
حدّق
ترَ الموت يدنو بفطرته
إلى ضفاف أبدية
أتأمله واقفاً قرب حياتي
لا تحركه ظلالي
ولا هو يغيّر وشمها
. . . . .
حدق…
يولد الموت من نزيفي
إلى عتمتي
وأحلم بالضوء
ينبئني بغياب موتي المشاع
يودعونني بكلمات صاخبة
وبشفاه مزمومة
ويعودون حفاة عراة
بلا أقنعة
ونقرأ في قصيدة «في البال» مشاعر الحزن واليأس والقلق. وفيها يتبع الشاعر الأسلوب الحداثي فيعتمد الألفاظ اللينة السهلة، ويستخدم المحسنات البلاغية المستجدة غير المسبوقة. ويقفز من فكرة لأخرى دونما اعتبار لتسلسل الأفكار، ثم يقفز من الجملة الإخبارية إلى الأخرى الاستفهامية ليسائل تفاهة أبناء البشرية الذين يجاهرون بالعفّة وهم عراة:
ليس في الرأس المهزوم
إلا النوافذ الفارغة
على شرفة الحزن
يتعرى الليل وينزف
كيف يخلع الغروب ثوبه
والنهار مبلل بالرحيل
لم أكن أدري
ان الأجنحة التي لا تعبر القمة
لا يحق لها أن تنام
* * * * *
لغسان منجد باع طويلة في الحب والمرأة، فقد خصّص لهما العديد من الدواوين، وحتى في هذا الديوان (قنديل لسفر الخريف) المصنّف على أنه من باب الشعر التأملي الذاتي، حضرت المرأة الحبيبة موضوعاً اساسياً في أكثر من قصيدة، وجزءاً من كل، في العديد منها. حتى أن الشاعر ابتدأ ديوانه بغزلية بعنوان «أغنية مطر» يخاطب بها حبيبةً انتظرها على رصيف بارد مرة، وفي خيمة مرة أخرى. انتظرها ليفهم لغة الأمواج من على صدرها؛ وحملها في صدره علَّ حضورها يلهمه شعراً:
انتظرتك لأعطيك كلماتي
من على صفحة ماء
ذكّرتني بعيون…
انتظرتك على رصيف بارد
ومن حولي صورة المجرّة
جرت العادة أن يختار الشاعر/ة عنواناً لقصيدة يستدل منها على مضمونها أو رؤيتها، ولكننا هنا لا نقرأ للوهلة الأولى علاقة بين العنوان وجسد النص الذي يتكلم عن حبيبة من أوله إلى منتهاه، ولكننا لو أمعنّا القراءة لرأينا العلاقة التي أتت تلميحاً من خلال جمل ومفردات كمثل: الماء، الغرق، الإبحار، الينابيع، الجداول ومن الجمل (انتظرتك لأعطيكِ كلماتي من على صفحة ماء ذكرتني بعيون ..)، (حملتك في صدري كغناء الينابيع)، (ليرتب من الجداول عبرات)، (الأوسع من أغنيات المطر). ولنا في غموض العنوان من حيث هو شبه جملة مكونٌ من اسمين نكرتين دلالة على جدة القصيدة وحداثتها
* * * * *
سعت هذه الورقة المتواضعة إلى التعريف بطاقة إبداعية لشاعر لبناني يعيش في أستراليا شذًّ عن السرب الذي غرّد فيه الشعراء المهجريّون، فتميّز بالانفصال عن عالم الجماعة والناس والثورة، وتقوقع داخل عالم الذات والإنصات إلى عذاباتها. كما أنه نحا نحو تشكيل طرق جديدة في التعبير وخاض أفاقاً تجريبية في الكتابة تستجيب للمطالب الحضارية وتلبي احتياجات جمالية لم تكن موجودة قبل عصر ما بعد الحداثة.