العميد وجيه رافع

دخلت العملية السياسية في لبنان منعطفاً دقيقاً وحساساً،وتحوّلت الجغرافيا اللبنانية الى نقطة وسطية استراتيجية في الدائرة الاقليمية الكبرى،التي بدأ قطرها يتكامل ويتسّع، ابتداء من السواحل اليونانية وصولاً الى ليبيا في عمقها وساحلها،والتفافاً الى مصر واسرائيل وسوريا والعراق وتركيا وايران،يراقب الجميع بدقة كيف تبدو الملامح التي تتواتر تصعيداً في الافق، لتوريط الامن القومي المصري في حرب استنزاف او صراع مفتوح على الجهة الاخرى المقابلة لتاريخها المشرقي العربي

تُستقطع السياسات الدولية والاقليمية بالمفرّق، على المستويين الجغرافي والزمني، لكن الصورة العامة بالغة الوضوح، استقطاعاتها عبثية شكلية،انتهى عرس الدمار في المشرق العربي،الصعوبة الحالية تكمن في طرد المعازيم،أضحى حضورهم ثقيلاً ومتعباً، يعيق الخطط والخرائط والملفات التي رُسمت اطاراتها وقواعدها بحبكة دقيقة منذ ثمانينات القرن الماضي

في الساحة اللبنانية البالغة التفكك والتعقيد،بدأت عمليات خلط الاوراق الداخلية تسير بقوة وسرعة كبيرتين،مع ملاحظة التخبّط والضياع التي تعانيه الولايات المتحدة في مقاربة الواقع السياسي اللبناني المعقّد، فهي من جهة تعمل الى عزل حزب الله في الداخل اللبناني وقطع صلة رحمه مع أمه ايران، ومن جهة أخرى تُدرك إدراكاً يقينيا، مستوى ترّهل وهشاشة مؤسسات الدولة اللبنانية، وهي التي حاولت لعقود خلت اقامة شراكات استراتيجية معها،لكن بالرغم من هذا التخبط، نجحت الدبلوماسية الاميركية عبر سفيرتها الجديدة السيدة دوروثي شيا،في خلط اوراق اللعبة السياسية الداخلية بسرعة كبيرة،وهي المختصة في تقنيات الدبلوماسية الشعبية التي تهدف الى الضغط والتأثير على المجتمع المدني او الأهلي، وكذلك على المكوّنات الداخلية للشعوب دون المرور بالأقنية الدبلوماسية التقليدية،وقد أدت هذه الدبلوماسية دورها بنجاح ملحوظ، حيث ظهر بوضوح كبير، التأزم والضياع  لدى حزب الله، الذي يُدرك حجم الضغوط الاميركية المتزايدة يومياً عليه،وكيف يتم تسخير  إمكانيات وطاقات هائلة لاستهدافه بهدف عزله لبنانياً وتحميله مسؤولية الانهيار الاقتصادي والمعيشي، من أجل بلوغ الانفجار الاجتماعي بوجهه، وتوريطه في حرب أهلية يعلم علم اليقين انها ستكون باكورة نهايته حتى لو خرج منها منتصراً ،لكن حزب الله استطاع لتاريخه،بحنكة وواقعية استدراك هذه الارباكات، والهروب منها والمحافظة على عناصر قوته وحضوره المترامي في لبنان والاقليم

واقعيا، لا احد يستطيع التكّهن بمستقبل الصراع السياسي في لبنان،لكن لتاريخه يمكننا ملاحظة الوقائع الاستراتيجية التالية:

اولاً: يعلم بومبيو وفريق عمله علم اليقين،ان رأس الجسر الوحيد الذي نُفذ طبقا لمبدأ ايزنهاور في العام ١٩٥٨،لم يعد صالحاً للتنفيذ على شواطئ الاوزاعي ،وقد تم عملياً رسم السهم على خرائط الركن الخامس في هيئة الاركان المشتركة للجيوش الاميركية، على الشواطئ الممتدة من المتن الشمالي وصولاً الى البترون

ثانياً:يُدرك الجميع ومن ضمنهم ايران وحلفاءها، بان الولايات المتحدة لن تتخلى بتاتاً عن الشواطئ اللبنانية، لأهدافها وعملياتها الاستراتيجية في الاقليم،وذلك منذ اختيار لبنان لعقود خلت، مركز الربط الامني والاستخباري والعملياتي والاستراتيجي،وصولاً الى غايات الربط الاقتصادي في الشبكات الاميركية العملاقة على امتداد الخرائط الجيو-سياسية،والتي ستظهر تجلياتها تباعاً على مدار العقد القادم من الزمن

ثالثاً:تعلم إيران وحلفاؤها جيداً، ان كوريدورات اسرائيل الاستراتيجية الكبرى لعمليات السيطرة والنفوذ في الاقليم، وكذلك لعمليات الحماية الاستراتيجية لأمنها القومي على حدودها الشمالية،تمر في الجغرافيا اللبنانية حيث هي ممراتها الحيوية الاجبارية،إن عبر المسار البحري الالتفافي، او عبر وادي البقاع بين سلسلتي جبال لبنان الشرقية والغربية

رابعاً:يعلم جميع اللاعبين في المنطقة،ومن ضمنهم الولايات المتحدة،انه من الاستحالة بمكان، موافقة حزب الله وبيئته الحاضنة ،على تسليم اسلحته واوراق قوته وامن مجتمعه السياسي والمستقبلي،الى مؤسسات الدولة الهرمة والمفككة،دون اعادة النظر بقراءة جديدة لمواقع القوة والتأثير للطوائف اللبنانية في  العملية السياسية والعسكرية للبلاد، هذا اذا نجحت القوى الكبرى،افتراضاً،في تفكيك علاقته بايران

في المحصّلة، يدور الجميع في حلقة من التأزم والضياع وانسداد الافق،فالحزب حالياً يحاول العمل على التأقلم والتكيّف مع المراوحة واستقطاع الوقت وصولاً الى معرفة مسار الانتخابات الرئاسية الاميركية في نوفمبر القادم بالاضافة الى مسار العملية السورية بُعيد الانتخابات الرئاسية فيها ، فهل يكون طرح الحياد البطريركي العاطفي والرومانسي،خشبة الانتظار المطلوبة لتمرير الوقت واستقطاعه…زيارة باسيل الاخيرة الى الصرح البطريركي وطبيعة تصريحه من على منابرها، تشير بقوة الى هذا الاحتمال