أقامت جامعة القديس يوسف في بيروت حفل تخرج لطلاب أقسام الطب في الجامعة برعاية رئيس الجامعة الأب البروفسور سليم دكاش والبروفسور فيليب سالم المتحدث الرئيسي في حفل التخرج. كما حضر عميد كلية الطب في الجامعة ومسؤولون كبار. دكاش قدّم سالم بكلمة هامة أكّد فيها على دوره كطبيب عالمي يحمل معه وطن الأرز إلى العالم كلّه.

هنا نص الكلمة التي ألقاها البروفسور فيليب سالم:
أودُّ أولاً أن أتقدّمَ بالشكرِ الكبير لجامعةِ القديس يوسف، ولشخصِ رئيسِها الأب البروفسور سليم دكاش لدعوتي لأكونَ خطيبَ حَفلِ التَخرجِ من كلياتِ العلومِ الطبيةِ هذا المساء.
لقد كانت رسالتي وستبقى الدفاعَ عن الإنسان، أيِّ إنسان، ضدَّ المرض. وكذلكَ أيضا ستبقى رسالتي الدفاعَ عن وطني لبنانَ وأهلِهِ ليبقى لبنانُ وطنَ الرسالةِ، ولتبقى الرسالة. وكما في كلّ مرةٍ يُشرّفُني أحدٌ بتكريميَ أنحني أمامَ والدي ووالدتي اللذينِ يرقدانِ في الأرض على رجاءِ القيامة. وكم أودُّ أن أُقبّلهما، وأقولَ لهما، إنني ما زِلْتُ على عهدي، وما زِلْتُ أَطلبُ رِضاهما صباحَ كلّ يوم.

أيُّها المُتَخرّجون،
منذ ثمانيةٍ وخمسين عامًا كُنْتُ مثلّكُم اليومَ أُنتظرُ استلامَ شهادتي. منذُ ذلك اليّومِ إلى يومِنا هذا كانَتْ رِحلةٌ طويلةٌ امتزجَ فيها الفرحُ معَ الألم كما امتزجَ فيها النجاحُ معَ الفشل. بَدأتُ رِحلتي مع الأمراضِ السرطانية في مدينة نيويورك إذ التحقتُ في سنة 1968 بمؤسسة
Memorial Sloan Kettering Cancer Center. وبعدَ ثلاثِ سَنَوات وفي سنة 1971 عُدْتُ إلى بيروت والتحقتَ بالجامعةِ الأميركية وكُنْتُ أوّلَ أستاذٍ متفرّغٍ لعلمِ السرطان ومعالجةِ الأمراضِ السرطانيةِ فيها. يَومذاك ذُهِلْتُ لوجودِ حائطٍ يَفصِلُ الجامعةَ الأميركية في بيروت عنْ جامعةِ القديس يوسف. فَسعَيتُ مع أصدقائي في جامعتكِم هذهِ لهدمِ هذا الحائط. وقُمنا بتعاونٍ وثيقٍ معهم لبناءِ جبهةٍ علمية لمعالجةِ الأمراضِ السرطانيةِ في لبنان. لقد هَدَمْنا هذا الحائطَ لأنَّ المعرفةَ لا تعترِفَ بحدود جغرافية. ولأنَّها صُنِعَتْ لا لِتَكونَ في خِدمةِ المؤسساتِ فقطْ بل لِتكونَ في خِدمةِ الإنسان.

أيُّها المُتخرّجون،
لقد جئْتُ اليومَ لا لأسديَ النّصحَ لكم، بل لأُخبِرَكم بما تَعلَّمْتُهُ من النجاحِ ومِنَ الفشل، لَعلَّ في ذلكَ ما يُضيئُ الطريقُ أمامَكُم.
لقد تَعَلّمْتُ أنَّ المعرفةَ هي القوّةُ التي تُحرِّرُنا من العبودية فليسَ ثَمّةَ عبودِيةُ أشدُّ وأدهى من عبوديِة الجهل. فلا تقل «من علّمني حرفًا صِرْتُ له عبدًا» بل قُلْ من علّمني حرفًا أعتقني من عبوديتي. فليسَ هناك من قوّةٍ تفكِّكُ السلاسلَ التي تُقيدِكُم كالمعرفة. وجِئْتُ لأقولَ لكم إنَهُ كلّما غُصْتُم عُمقًا في المعرفة كُلّما اقتربتُم مِنَ الله. وكلّمنا اقتربْتُم مِنَ الله كلّما أصبحتُم واحدًا، وزالَتِ الحدودُ التي تُفرّقُكم. لِذا كانَ عنوانُ كتابٍ من كتبي «المعرفةُ تَقودُكَ إلى الله».
وتَعلّمتُ أنَّ الطِبَّ ليسَ مِهنةً مثلَ المِهَنِ الأُخرى. إنَّهُ الرسالةُ التي تَعلو فوقَ كلّ الرِسالات. في هذهِ الرسالةِ يَرتفعُ الطبيبُ إلى أعلى ما يُمكنُ أن يَرتفعَ اليهِ الإنسان. يرتفعُ إلى ما فوقَ الجغرافيةِ والسياسةِ والدينِ والأيديولوجيةِ والفلسفة. يَرتفعُ إلى الإنسان. في الطِبّ يرتفعُ الطبيبُ أيضًا إلى ما فوقَ الشُهرةِ والقوةِ والنفوذِ والمال، يَرتفعُ إلى أرقى مراتبِ العَظَمة، إلى الرسوليّة. أما المريضُ فهو ليس زُبونًا كما يعتبرونَهُ في لبنان والعالم والعربي وهوَ ليسَ مستهلِكًا للعنايةِ الطبّيةِ كما يَعتبرونَه في الغرب. وكذلك فهوَ ليسَ شخصًا مسيحيًا أو مُسلِمًا، غنيًا أو فقيرًا. وليس شخصًا ذا سلطةٍ ونفوذْ أو شخصًا مُعْدَمًا. إنه إنسانٌ، فيه شيءٌ مِنَ الله.
قد يَكونُ المريضُ إنسانًا ضعيفًا لكنّهُ انسانٌ لهُ كرامتُه. وقد يكونُ إنسانًا مهزومًا لكنَه إنسانٌ يستحق كلَّ المحبة. فليسَ هُناكَ مَن يَحتاجُ إلى المحبةِ والحنانِ والكرامةِ كالمريض. وعلينا أنْ نتذكّرَ نحنُ الأطباءَ أنَّ هذا المهزومَ أمامَنا، يَقِفُ وراءَهُ أبٌ وأمٌ، إخوةٌ وأخوات، أصدقاءُ وأقرباءُ يُحبّونَه. فتعالَوا نَغمُرْهُ نحنُ بالمحبةِ أيضًا. لقد تَعلّمَتُ أنَّ الطبيبَ الذي لا يُحِبُّ مريضَه لا يُمْكِنُه شِفاؤُه. فالمحبَّةُ هي الرابطُ المقدَّسُ بين الطبيبِ والمريض وهيَ القوةُ التي تَصهَرُهما معًا. المحبّةُ تَرفَعُكَ دائمًا إلى فوق. «المحبةُ لا تَسقطُ أبدًا».
وأوَدُّ أَن أُذَكّرَكُمْ أنَّ اللهَ أعطاكُم فرصةً لم يُعطِها لِغيرِكم. لقد أعطاكُم فرصةً لِلعطاء. فرصةً لاعطاءِ الحياة. كثيرون تَكلَّمُوا عنِ العطاء. فجميلٌ أن تُعطيَ من مالِكَ، وأجملُ منهُ أنْ تُعطِيَ من نفْسِك، ولكن أعلى مراتبِ العطاءِ هُو عطاءُ الحياة. وإنّهُ لَشَرَفٌ عظيمٌ أنْ تَمتَلِكُوا بيدِكُم القوّةَ لإعطاءِ الإنسانِ حياةً. وهنا لا بُدّ أن نَتذكّرَ أنَّ أهمّ حقٍ للإنسان ليس الحقَّ في الحريِة أو الحقَّ في التعلُّمِ أو الحقَّ في اختيارِ الدين بل هو الحقُّ في أن يحيا. ولا يمكن إعطاءُ الإنسانِ الحقّ في الحياة دون إِعطائه الحقَّ في الصحة. لِذلكَ قُلْنا ونُكرّرُ إنَّ شرعةَ حقوقِ الإنسان يجبُ أن تُعدَّلَ ويَجبُ أن نَجعلَ أهَمَّ حقٍ للإنسانِ فيها هو الحقُّ في الحياة. لقد تَعلَّمّنا مِنَ العلمِ أنَّ كلَّ وثيقةٍ لا تَخضعُ للتطويرِ والتقييمِ والتغييرِ تَتجمَّدُ في التاريخ ثمَّ تَذبلُ وتَموت. يجب أن يَحيا الإنسانُ أوّلاً حتَّى يَتمكّنَ مِنْ أنّ يُمارِسَ الحقوقَ التقليدية التي جاءَتْ في هذهِ الشِرْعَة.
وقد يكونُ أهَمُّ ما تَعلّمُتُه في هذِه الرِحلةِ هو التواضع. وكيف لا تكون مُتواضعًا أمامَ هيبةِ المعرفة؟ هذهِ المعرفةِ التي تَسبَقُكَ إلى الأمامِ كلَّ يوم وتُشعِرُك بالتقهقرِ إلى الخلفِ كلَّ يوم. وَكَيف لا تَكونُ مُتواضعًا أمام هيبةِ الألمِ والعذابِ والمعاناة؟ وكيف لا تَكونُ متواضعًا أمام شجاعةِ هؤلاءِ المرضى الذينَ يواجهونَ الموت؟ والتواضعُ يَطلبُ منكَ أن تَسَلخَ «الأنا»، خاصّتَكَ عنك، قبلَ أنْ تَلمُسَ جسدَ المريض.
وتَعلّمْتُ أيضًا أنَّ السعادةَ هيَ غيرُ ما كُنْتُ أَعتقدُ عندما كُنْتُ مِثْلَكُم. يومذاك كُنْتُ أَعتقدُ أنَّ السعادةَ هيَ النجاح، ولكنني عَرَفْتُ الكثيرينَ مِنَ الذينَ تمكّنُوا من الوصولِ إلى القمَّةِ في عَمَلِهِم أو القِمَّةَ في النفوذِ والشهرةِ إلاّ أنَّهم لم يَتمكّنُوا من الوصولِ إلى السعادة. فالسعادة في رأيي ليست سُلّمًا خارجيًا تَصَعَدُهُ دَرَجَةً دَرَجَة، وتزدادُ قوةً وشأنًا، بل هُوَ سُلَّمٌ داخليٌ في أعماقِكَ لا يراه أحدٌ غَيرُك، تَمتزِجُ فيهِ الحقيقةُ مع الصورةِ حتى يتطابقا. عندئذٍ تَصِلُ إلى أَعلى قِمَّةٍ يُمكِنُ أن تَصِلَ اليها. تَصِلَ إلى سلامٍ واحترامٍ في داخِلِكَ، بينَكَ وبينَ نفسِك. وتَعلمُ أنَّكَ وَصلْتَ، عندما تَحترمُ الشخصَ الذي تَراهُ في المرآةِ صباحَ كلِّ يوم.
وما نَقولَهُ لِلأطباءِ اليومَ نَقولُهُ لجميعِ الطُلابِ المُتخرّجينَ من كُلّياتِ العلومِ الطبّية. من الممرضةِ إلى الصيدليّ وإلى جميعِ المتخصصينَ في المجالاتِ العديدةِ التي تُشكّلُ البُنيةَ التحتيةَ للرعايةِ الصحية.
وتَذكّرُوا أيَها المتُخرّجونَ أنّكُم تَعيشونَ في بَلَدٍ تُقاسُ فيهِ النساء والرجالُ بالألقابِ والمراكزِ والمال، كما يُقاسونَ بانتماءاتِهِمِ الدينيةِ والسياسيةِ والطائفيةِ وقَلَّما يُقاسون بِقُدرتِهِمْ على العطاء وبقُدرَتِهِمْ على صُنْع المُستقبل. فإياكُمْ أن تَنحدِرُوا وتَتأقلَمُوا. نُحْنُ نَدَعوكُم إلى التمَرّدِ على هذا الواقعِ لكي تَتمكّنوا مِنَ العبورِ «مِنْ مستنقعِ الشرقِ إلى الشرقِ الجديد».

أيُّها المُتخرّجون،
إذهَبوُا واعملُوا وازرَعُوا في الأرضِ وطارِدُوا أحلامَكُم ولكن إياكم أن تَنْسَوا يَومًا مَنْ أنتُمْ، ومِنْ أينَ أتيتُم، ومَنْ هُمْ أهلُكُم، وأيُّ أرضٍ في الأرضِ هي أرضُكُم. وإنْ غادَرْتُم هَذِه الأرضَ خذوا حَفنةً من تُرابِها مَعَكُم. على بُعْدِ ثمانيةِ ألفِ ميلٍ من هنا. في مكتبي في مدينةِ هيوستن غُصنُ زيتونٍ من شجرتي، وزجاجةُ زيتٍ من كرمي، وحفنةُ ترابٍ من ضيعتي، لا لأتذكّرَ مِنْ أينَ أتيْتُ بل ليقول لي مَنْ أنا.

أيُّها المُتخرّجون،
غدًا تَبدأونَ مرحلةً جديدةً من حياتِكُم وَسَتَنْشَغِلونَ في أعمالِكُم، ولكنْ كَرّسوا كلَّ يَومٍ دَقائِقَ معدودة وارفعوا الصلاةَ إلى الله وأشكروهُ على ما أغْدَقَهُ عَليكم. وأطلبُوا مِنْهُ أن يَحفَظَ أهْلَكُم. ومن أجلِ لبنانَ أطلبوا منه «أن يَتَطلعَ مِنَ السماءِ وينظُرَ ويتعهدَ هذِه الكرمةَ لأن يمينَهُ غَرَسَتْها».
لتُباركْكُمُ السِماءُ أمّا الأرضُ إن تَكلّمَتْ، فستقولُ لَكُمْ: أُثْبُتوا في مَحبّتي كما ثَبتُّ أنا في محبّتكم»

أيُّها المُتخرِّجون،
لِيكُنْ سلامُ اللهِ ولتَكُنْ صَلَواتُ أهلِكُم مَعَكُم.