بقلم رئيس تحرير مجلة ‘النجوم’ / وديع شامخ 

يبدو أن الموت أصبح زائرا أليفاً جداً يجول ببينا كأسد جائع يختار منّا ما يؤلمنا فراقه، ولكن الحق أن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي لم تختلف عليها البشرية، أن الناس متساوون بدرجتهم الإنسانية ، ولكن موت شخصيات عامة في مختلف حقول الحياة يثير جدلاً واسعاً بين المجتمعات حزناً أو شماتة، تصل حد الفرح أحيانا وحسب موقع الراحل في حياة مجتمعه ودوره في حياته وما قدّمه من خير أوعكسه !!. لكن موت الشاعر والمبدع عموما قد لا يمثل حدثاً كبيرا في حياة الشعوب وخصوصا عندما يكون الشاعر غريبا في وطنه ، كصالح في ثمود في حياته ، فكيف يكون الأمر في رحيله ؟
والأنكى أن المبدعين بشكل عام يغيبون في الكثير من الأحيان وهم أحياء قبل موتهم ،سيما المتفردون ،وكان فوزي منهم .
عاش غريبا عن واقع ستيني تتناهبه الولاءات الحزبية والتيارات الفكرية التي عصفت بجيل الستينات ،وكان التيار الوجودي هو الذي يتقدم هذه المؤثرات، وقد انعزل فوزي كريم بطريقه الخاص في كتابة الشعر وفهمه للحياة برمتها ، ولعل مقهى المعقدين شاهد على إختيار الراحل لعزلته الوجودية .
لاشك أن الكبيرين فاضل ثامر ومحمد خضير قد أجزلا الراحل الكبير في ثراء غير مسبوق، ولم يقدما رثاءً تقليداً .. ولكن شهادتي هنا تتوقف عند محطتين مع فوزي كريم الحاضر الغائب : الأولى من البصرة وتحديدا في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن العشرين حيث كنا نرتاد حانات متعددة تتيح لنا فسحة الحوار دون منغصات رسمية ! وكانت حانة «علي بابا « في شارع الوطن أثيرة لنا ، نحن مجموعة اللا» سلطة ، والهامش» التي تضم
أسماء إبداعية وقامات مشرقة في المشهد الثقافي البصري والعراقي عموما ومنهم « الناقد حاتم العقيلي ، القاص قصي الخفاجي ، القاص رمزي حسن نعمة ، والمسرحي والمثقف الموسوعي خالد كتاب والشاعر فاضل السراي، والخطاط الراحل غالب أبا ليث ، وأنا ، ويزورنا بشكل متفاوت الشاعر كريم جخيور والقاص جابر خليفة والدكتور عادل الثامري وآخرون كثر لا أتذكر أسماءهم « ، والواقعة التي جلبت انتباهي الى الراحل الكبير فوزي كريم، حين قرأت نصا بعنوان « كلينكس من مرمر « في جلسة علي بابا ، واذا بالصديق خالد السلطان يباغتني بتأثري بعنوان مجموعة فوزي كريم « جنون من حجر « ، والذي لم أقرأها بعد، عندها عرفت فوزي كريم حقاً، كواحد من الشعراء الذي أنتمى الى جنونهم بتأمل وحكمة ، وبدأت رحلتي العميقة في قراءة هذا الشاعر المتفرد نصاً وواقعا .
والثانية ، في عمان حين التقيته لدقائق في مؤتمر بعد سقوط نظام صدام حسين، وكنت قد قرأت له من الشعر والنقد ما يؤهلني لحواره بدقه ، قلت له : اهلا بالشاعر والناقد الكبير والنرجسي الذي تهافت الستينيون على مائدته الشعرية ، وبسبباته كشف زيف الامبراطور ، وحانة الكاردينيا ، وبجنونه نحت الحجر ، ووووو ,اذكره بعناوين كتبه النقدية والشعرية.
كان بالإمكان أن يطول اللقاء بيننا، ولكن الجلسة قد بدأت، فودعني وهو يقول « سعيد بوصول كتبي إليك،وأتمنى أن يصلك جديدي، سنلتقي قريبا «
وذهب الزمن ولم أره إلا عبر مجلته الألكترونية « اللحظة الشعرية « ..
فوزي كريم شاعر عميق وشاهد على نزق الأجيال، والحفار بدهشته وجنونه في فيافي الشعر السحيقة وهو ناسك وراهب في محراب الموسيقى متذوقا وناقدأ ضليعاً لها وللشعر أيضاً.
مات جسدا ً ولم يمت فكرة وشعراً ومواهب أخر لم تُكتب على شاهدة قبره.