كلّنا يعلم أنّ القاعدة الأساسية للاستثمار هو وجود مناخ يحفّز على ذلك. وهذا المناخ يتطلّب استقراراً أمنياً واقتصادياً ومالياً واجتماعياً، لكنّ أيّاً من ذلك غير متوافر في لبنان، بما يجعله أرضاً طاردة للاستثمارات ورؤوس الأموال. بيد أنّ لكلّ قاعدة استثناء. فهناك من يختطّ لنفسه قواعد اقتصادية خاصة به، يختلط فيها الحنين الى الوطن والمرارة الذاتية المعاشة سابقاً، بالإيمان العميق بقدرات الشباب اللبناني، والرغبة في تقديم فرصة لأبناء المعاناة في هذا الوطن المعذب. ويصبح الأمر سوريالياً عندما يقرّر أحد ما الاستثمار في طرابلس، التي عانت من هجران الدولة لها منذ قيام لبنان الكبير، حتى صارت في نظر أبنائها قبل غيرهم ريفاً كبيراً يجمع في ثناياه كل أشكال المعاناة والحرمان.
عماد المصري، رجل أعمال ولد من رحم هذه المعاناة المتناسلة، وعاش فيها صباه وقسطاً من شبابه. قادته الأقدار مثل آلاف الشباب اللبنانيين الى الاغتراب بحثاً عن فرص العيش الكريم. فحطّ رحاله في أستراليا عام 2004. وخلال 18 عاماً من العمل الجادّ والمتواصل، استطاع تأسيس شركة شحن برّي بدأت بواحدة فقط كان يقودها بنفسه. الشاحنة صارت إثنتان، ومن ثمّ ثلاثاً، وهكذا حتّى بات لديه اليوم أسطولاً من أحدث الشاحنات. وصارت شركته «غولد تايغر» في طليعة الشركات في أستراليا.
وفي الوقت الذي يفرّ اللبنانيّون من وطنهم، بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، قرّر عماد أنْ يسبح عكس التيّار، وأنْ يفتتح فرعاً لشركته في طرابلس بالذّات، لأنّ «الدولة نسيتها منذ زمن بعيد، أفينساها أبناؤها أيضاً؟”
تجربة فريدة
بغية تجاوز التعقيدات القانونية، نظراً لاختلاف النظام المحاسبيّ والضريبيّ في لبنان عن أستراليا، ارتأى المصري إنشاء شركة لبنانيّة تحمل اسم «غولد تايغر للخدمات اللوجستية»، ترتبط بالشركة الأم التي تعمل في مجال الشحن البرّي والتخزين وتقديم الحلول اللوجستية للشركات التي تحتاج الى أنماط معيّنة للنقل والتخزين.
هي تجربة فريدة من نوعها. شركة لبنانية ستعمل عن بعد، في السوق الأسترالية بداية، ومن ثمّ في أسواق بلدان أخرى في المستقبل. علاوة على أنّ عملها قائم على ثلاثة أقسام: المحاسبة والبرمجة وخدمة الزبائن. وهذه الأقسام بالذّات تعتبر لصيقة بالإدارة، لذلك يندر وجودها في طرابلس. فالمقرّات الرئيسية للشركات غالباً ما تكون في العاصمة بيروت أو في ساحل جبل لبنان، وهو ما أدّى الى حرمان الشباب الطرابلسي من عشرات فرص العمل في هذه الاختصاصات.
في زيارة الى مقرّ الشركة في البحصاص عند المدخل الجنوبي لمدينة طرابلس، يستوقفك مستوى التجهيزات الموجودة فيها. أربع شاشات أمام كلّ موظف وموظفة، ولابتوب وباقي اللوازم الكمبيوترية، وكلّها من أحدث طراز، وشاشات كبيرة على الحوائط من أجل الاجتماعات عن بعد. وكذلك الإداريون الأستراليّون الذي قدموا لتدريب فريق العمل اللبناني وتجهيزه.
اللبناني قادر
يقول عماد المصري في حديث لـ”Tripoli FM” أنّه دائماً ما كان يفكّر في أيّ طريقة يستطيع من خلالها خدمة بلده الأم. من هذا المنطلق قرّر افتتاح شركة في طرابلس «لتساعد في التخفيف من الهجرة، والحدّ من ظاهرة قوارب الموت، عبر توفير فرص عمل لأبناء الشمال المهمل من الدولة على كافّة الصعد الإنمائية والخدماتية”.
ويضيف «أنا على يقين أنّه لدينا طاقات مهمّة جداً». ويضرب المثل بنفسه، وكيف اضطرّته الظروف الى الهجرة لأستراليا التي فتحت له أبوابها «اللبناني قادر، أنا بدأت من الصفر، واليوم لديّ أسطول من الشاحنات، وشركات في مجالات أخرى مثل التعليم والبناء. اللبناني أثبت أنه ناجح في الخارج، فلماذا لا ينجح في بلده؟ لأنّه يفتقد الى الإمكانيات التي تساعده على ذلك”.
وعن سبب اختيار هذا التوقيت، يكشف عماد لـ”Tripoli FM” عن خطط استثمارية لتوسيع أعمال الشركة خارج أستراليا، ومن ضمنها منح بعض أعمالها الى الفيليبين «لكنّني في قرارة نفسي تساءلت ألا يمكن أنْ يحصل هذا العمل في لبنان، فبلدي وأبناؤه أولى”.
يؤمن الرجل أنّ عملاً من هذا الحجم سيساعد في بناء اقتصاد متطوّر، وبخاصّة في عاصمة الشمال «أجرينا بعض الدراسات للوقوف على سُبل النجاح، ولا أُخفي أنّني وجدت الكثير من العراقيل. وعندما كنت أفاتح أيّ شخص عن الفكرة كان يسخر مني. لكنّني أثق بأنّ المشروع سينجح، وما في شي بيغلى على أهلي بالشمال”.
الهدف 1000 وظيفة
يشير عماد الى أنّ هدفه تأمين نحو 1000 وظيفة على مستوى الشمال بالاشتراك مع بعض الأصدقاء في الجالية اللبنانية بأستراليا. أمّا على المستوى الشخصي «فأنا كفيل بتأمين 100 فرصة عمل لأبناء الشمال خلال السنوات الثلاث المقبلة”.
ويكشف رجل الأعمال الذي يرأس في الوقت نفسه الهيئة الإدارية لكلية الرسالة في أستراليا، والتي تضم 1200 تلميذ/ة، عن مشروع قيد الدراسة في قطاع التعليم. هذا المشروع يتيح فرص عمل لأساتذة اللغة العربية بصفر كلفة، من خلال إعطاء دروس لغة عربية لأبناء الجالية اللبناية في أستراليا عبر «الأونلاين». وفي ذلك إفادة مزدوجة: للمعلّمين في زيادة مداخليهم المتهاوية، وللمغتربين في تعليم أبنائهم لغة آبائهم وأجدادهم.
في حين يشير المدير التنفيذي فادي المصري الى أنّ هذه الشركة هي الخطوة الأولى في مشروع ضخم «نحن بحاجة الى محاسبة، والى تطوير البرامج الإلكترونية في الشركة. بدأنا بـ32 موظفاً وموظفة نعكف على تدريبهم للتأقلم مع النظام المّتبع في أستراليا”.
ويضيف في حديث لـ”Tripoli FM” أنّ «هدفنا تحريك العجلة الاقتصادية في الشمال، وتأمين وظائف للشباب والكفاءات تغنيهم عن الهجرة، فيعملون في بلدهم ووسط عائلاتهم ويحصلون على مداخيل تقارب تلك التي يهاجرون من أجلها». ويلفت الى اختيار الموظّفين من طرابلس والمناطق الشمالية، من عكّار الى الضنية وبشرّي، فلا مشكلة في بدلات النقل لأنّ «الرواتب وجميع تعاملات الشركة بالدولار”.
لا أهداف سياسية
ينفي عماد بحسم وجود أيّ أهداف سياسية خفيّة له. فلو كان لديه مشروع سيّاسي لكان ترشّح في الانتخابات النيابية منذ أشهر. ويكشف في الوقت عينه أنّه عضو في الهيئة الاستشارية لـ»جمعية أبناء طرابلس والميناء»، والتي تسعى لتأمين مشاريع اقتصادية لطرابلس.
ويؤكد أنّه يسعى جاهداً للتخلّص من نظام الإعالة وكراتين الإعاشة، واضعاً نفسه في خدمة أيّ شخص يريد تأسيس عمل في لبنان «أنا حريص جدّاً على مصداقيّتي مع الناس، فهي رأسمالي الأساسي، ودخولي عالم السياسة سيفقدني بعضاً منها بالتأكيد. أنا على مسافة واحدة من الجميع، وعلى علاقة طيّبة بكلّ الأطراف السياسية”.
هذا وسيعلن عن إطلاق عمل الشركة في لبنان بشكل رسمي في احتفال في أوتيل «لامونيا» في القلمون يوم الثلاثاء القادم في 31 كانون الثاني، بحضور سفير أستراليا في لبنان، وبحضور عدد من الشخصيات السياسية والاجتماعية والأمنية.
ذاك أنّ «مشروع بهذا المستوى والحجم يستحق الإضاءة اليه إعلامياً» حسب المدير التنفيذي فادي المصري، الذي يتمنّى أنْ يحذو رجال الأعمال في بلاد الانتشار حذوهم، بما يسهم في خلق المزيد من فرص العمل
عن مزقع حسام درنيقة