عبدالوهاب طالباني

“في اواخر عام ١٩٩٢ خضت مغامرة خطيرة ربما كانت تكلف حياتي في حال فشلها او اي خطأ كنت أقع في مراحل تنفيذها ، وهي مغامرة الخروج من ليل الكمائن والتخلص من زمان الرعب والقلق والخوف والموت إلى الجانب الاخر من ضفاف الحياة والحرية … هذه بعض ما استطعت التعبير عنه لحكاية تلك الليلة المظلمة المشرفة على أفق نجاة قيد مغامرة صعبة للغاية.. “
حدث هذا في اواخر عام ١٩٩٢
كانت لحكاية هروبي من بغداد وصولا للموصل ثم قصبة برطلة وثم كوردستان قصة مليئة بالكثير من المخاطر وكل دقيقة منها كانت تشكل لي حالة قلق ورعب ، لكن كان لابد من تنفيذها تحمل نتائجها مهما كان الثمن … سأذكر تفاصيلها الكاملة في مشروع كتابي « صخب الذكريات”..
وهنا جزء من تلك الحكاية..
لليلة خروجي من قصبة «برطلة» القريبة من «الموصل” قصة ليست كالقصص العادية ، فقد كنّا في العاشر من شهر كانون اول عام 1992، كانت تلك الليلة مليئة بالمفاجئات الخطيرة والمخيفة ، إذ كان على الدليل أن يوصلني الى ضفة الأمان على ساحل نهر «الخازر» حيث قرية «قه سروك» لالتقي بمفرزة من «البيشمه رگه» يكونون بانتظاري لانتقل بمعيتهم الى أربيل حيث اهلي وأسرتي التي سبقتني إلى هناك عبر مغامرة اخرى وعن طريق بلدة كفري فالسليمانية ثم اربيل فكانت مغامرة لم تكن باقل خطورة من مغامرتي ..
قبل البدء بالمسير أعطاني “مام روستم» وهذا إسم الدليل «شروالا» كورديا كي البسه فوق بنطلون الجينز الذي كنت أرتديه ، وقال لي : إننا سنتحرّك والطريق ليس معبدا لنا بالورد ، وكلّ شيء ممكن حدوثه ، وسنتعب كثيرا خلال عبورنا جبل «مقلوب» ، وإنشالله سنصل الى قرية «قه سروك “ حيث النجاة من كمائن القوات العراقية في اسفل المنعطف الاخر من الجبل سالمين. كلمته بأن كلّ شيء ممكن حدوثه اقلقني ، ولكني عرفت أنه يتحدث بمنطق سليم ، نعم كل شيء ممكن حدوثه فنحن نمشي في الظلام تماما ولانرى حتى مواقع أقدمنا ، وأنا لا أعرف المنطقة أبدا ولم يحصل أن مررت بها ، وقال لي مام روستم أيضا : إذا حدث و وقعنا في أيدي كمين عسكري تظاهر بانك أصمّ وأبكم ولا تتحدث مهما حاولوا معك ، سأقول لهم أنّك أخي وأنّك أبكم وتساعدني في عملي، هم يعرفونني بأنني أعمل مهربا ، سأتعامل معهم ونتخلص منهم ، المهم أن لا تتكلم أبدا.
كان الليل موحشا ، مظلما ومخيفا، ولكن الثقة كانت تملؤني بأنني سأتجاوز المحنة ورهبتها..
كنت أتوقّع تماما أن تنهيني طلقة قاتلة تائهة في ليل الكمائن المبثوثة وراء التلال او في شعاب الجبل ، ولكن لم يكن هناك أي خيار اخر لي ، فقد إخترت أصعب وأخطر الخيارات ، ولم يبق أمامي أي خيار للتراجع الذي هو الاخر الخيار الأخطر . فأنا بمواجهة مصيري تماما.
كنّا نمشي فوق أرض طينية موحلة في أغلبيتها ، وكنت مع كل خطوة أرفع مع حذائي كمية كبيرة من الوحل ، مما جعل مسيرنا صعبا جدا، وكنت لا أدري هل كنت غارقا في وحل الطريق أم وحل المغامرة..!
وقد فاجئني مام روستم أنّ فراسته في معرفة دروب الليل قد خانته هذه المرّة، فدخل معسكرا قديما لقوات النّظام العراقي ، وقد تحوّل فيما بعد الى مركز لتوزيع الكمائن الليلية التي تتربص بالبيشمه رگه وبالناس والعابرين الى صوب النجاة في الجانب الاخر من أرض كوردستان ، ومنهم الذين يهربون النفط الابيض والمواد الغذائية الى كوردستان التي كانت واقعة تحت قيود الحصار الاقتصادي ، وقد كان المهربون حسبما علمت من دليلي كانوا يدفعون رشاوى الى مسؤولي المفارز العسكرية العراقية في تلك الدروب مقابل سماحهم لنقل تلك المواد إلى كوردستان .
بدأ المطر يهطل بغزارة ، وليل شتاء كوردستان البارد كان قارسا، فالتجأنا الى حائط مكسو بحشائش كثيفة بجوار المعسكر ، مرّت سيارة عسكرية كبيرة على الشارع الذي بجانبنا ، وعلى مرمى نظرنا ، وعلى أضواء السيارات العسكرية الاخرى رأينا جنودا مدججين بالسلاح ينزلون منها ، ويغيبون في قلب الليل، وقد وخزني شعور مؤلم بأنّ كارثة كبيرة بانتظارنا .
وكنت أتساءل كيف الخروج من هذا المأزق الخطير الذي أصبحنا فيه.
لكن لم يكن لدينا أي حلّ اخر ، فكان علينا أن نكمّل ما بدأناه ، ونتابع سيرنا المتعب في قلب الظلام .
تذكرت صعوبة المناورات التي قمتُ بها لكي أفلت من دائرة الموت في بغداد ، فقد تطلب الامر سرّية كاملة، وإستعدادا دقيقا فوق التّصور، وتطلّب الامر أيضا تخطيطا ليس عاديا، لم يكن الامر متعلقا بي وحدي، بل باسرتي أيضا ، وكنتُ قد قررت نهائيا وبدون اي تردد، الخروج من الجحيم الذي كنت أعيشه ، وأن أزيل ذلك الكابوس الذي جثم على صدري منذ سنين ، وأن أتحرّر من الوضع النفسي السّيء، الذي أفسد عليّ حياتي وضميري ، ومهما كلّفني من ثمن.
إنفتحت السماء بزخات مطر أشدّ، وبدأت السيول تملأ الوديان القريبة في ذلك الليل البهيم، أمّا «مام روستم» الدليل فقد ذهب لاستكشاف المنطقة كي يصحح طريق سيرنا علّه يهتدي الى ثغرة نتسلل منها الى الجانب الاخر من ..الدنيا.
وانتابتني أثناء ذهابه أفكار وتصورات ومشاعر كثيرة ومقلقة ، فقد كان الدليل بالنسبة لي يمثّل الامل ومفتاح الامان رغم أخطائه في المسير ، ولكن كنت أعلم أنه يعرف مسالك المنطقة بصورة عامة وربما أفضل في النهار ، رغم ثقتي التامة بطيبته كنت أتساءل : تُرى ماذا يحدث لو لم يرجع رغم وعده لي بأنه سيعود خلال ساعة فقط ، كنت أحاول أن أجد طريقة لحلّ المعضلة.
أحسست ببعض الاصوات قريبة مني ، اقترب مني صوت كشبح ، فكان مصدره هو مام روستم ، فقال لي بلهجته الكوردية الجميلة ، وكان هو من قبيلة الهركية كما فهمت ، أنّ أشدّ من معنوياتي ومن قوّتي على المسير ، إذ كان يشعر بأني لا اتنفس بانتظام ، وبدأت طاقتي تضعف، إذ كان علينا أن نعود القهقرى الى الوراء لمدة نصف ساعة ثم نلفّ على حائط المعسكر، ونتجه شمالا نحو الجبل، لم يكن لديّ ايّ حلّ آخر سوى تنفيذ «أوامره»، فأخذنا نسير بجانب المعسكر الى أن تجاوزناه ، فأحسست أننا أصبحنا فوف مرتفع من الارض ، والمطر ما زال يدبّ فوق رؤوسنا ، وقد تبللنا تماما.
أثناء مسيرنا نحو قمة مرتفع أحسست أنني سأنهار ولا أستطيع مواصلة السير ، وأخذ التعب مني مأخذا صعبا، ومن ليلتها اُصبت بالربو وأشكو منه الى الان ، وكنت أتنفس بصعوبة ، حتى أنني لم أستطع مواصلة السيرفتهالكت على الارض ، وفقدت قدرتي على السير فتمددت على الارض لالتقط أنفاسي أو ربما لأموت ، كانت الحالة بالنسبة لي كأنها حالة إحتضار، إذ كنت الهث بصورة غريبة ، كأنت رئتاي تريدان الخروج من بين أضلعي ، وشعرت أن دليلي كان قد بدأ يخاف من أن يصيبني مكروه أو أن أموت إختناقا لانه كان يسمع صفير صدري وأنا اتنفس بصعوبة ، فحضنني مام روستم وأخذ يقول لي بصوت خفيض وهو يحرك رأسي «ماموستا بەس لێرە مەمرە کەی چووینە هەولێر بە کەیفی خۆت لەوێ بمرە» وترجمته « يا استاذ فقط لا تمت هنا فلنصل اربيل هناك مت على كيفك»..!!كلامه هذا أعطاني جرعة قوة إذ وبدون أن ادري أخذت أضحك ، توكأت عليه ونهضت ، وأحاطني بذراعه يحثني على السير …
وعندما اصبحنا فوق قمة المرتفع لاحت لنا في أسفل الجانب الاخر أنوار مضيئة لبيوت ، قلت للدليل : ما هذه الانوار ، قال أنها قرية تقع في أسفل التل علينا أن نبتعد عنها وأتمنى أن لا تخرج علينا الكلاب ، فتفضحنا بنباحها ، واصلنا السير بكل هدوء، ونحرص على ان لا نصدر أي صوت حتى لا تنتبه الكلاب .
وبسلام وصلنا الى قدمات جبل «مقلوب» وهذا اسمه ، وعلينا الان أن نصعد الجبل لنصل الى قمّته ، وعلى الجانب الاخر منه يقع مجرى نهر «الخازر» حيث قرية « قه سروك « المحررة واخر غابة الرعب ، كان السير من هنا سهلا ، إذ بدأت الارض صخرية ، وتخلصنا من الاوحال.
وحقيقة ، وأنا في تلك الحالة الصعبة، كنت لا أدري أضحك أم أحزن لموقف مام روستم الذي كان يخشى ان أقع ارضاً في اي لحظة.
وعلى حين غرة سمعت شخصا من بعيد يغني أغنية عربية شعبية ، قلت للدليل : من هذا الا تسمع ..؟
قال:
ما عليك ، نعم أسمع إنه جندي بائس في أحد الكمائن أحسّ بوجودنا فأخذ يغني بمعنى ابتعدوا عني..!
ورأيت غابة من الانوار في اسفل الجبل كانت هناك أشكال تشبه الدبابات أو هكذا تصورت ، فقلت له أهذا معسكر آخر ، هنا رأيته يضحك ويقول لي : كلا استاذ تلك بيوت «قه سروك” مفتاح النجاة تبدو من هنا على شكل دبابات أو انت هكذا تراها.
جوابه جعلني أضحك أيضا.
وعند نزولنا من الجبل مررنا بشعاب صخرية كنت أراها كأنها كانت مجرى نهري جاف، وصدرت أصوات من أماكن معتمة تماما في جانب المجرى تقول للدليل: ماذا تحمل معك يا مام روستم؟ « « ..وكان يرد عليهم قائلا: شتي ورد وردم پێيه…!!
ما معناه : انني احمل اشياء صغيرة ..
لم افهم معنى كلامه مع المهربين الاخرين الذين كانوا مختفين بين الحشائش على جانب الطريق .
قلت له من هؤلاء وكيف يعرفون إسمك ونحن في هذا الظلام ..؟
قال انهم مهربون مثلي ويعرفونني من طريقة مشيتي فوق هذه الأحجار.
وسرنا مبتعدين عنهم الى ضفة النهر ، فصوبت نحونا أنوار قوية على الرغم من طلوع اول الفجر وانبلاج شدة الظلام ، فكانت أنوار النجاة ونهاية هروب آخر ، ولم أكن أعرف إنه سيكون بداية لهروب آخر الى آخر العالم..!