جوسلين شربل بدوي – سدني

تلقت ولاية نيو ساوث ويلز صدمة قوية، في الاول من تشرين الأول، عندما أعلنت رئيسة الوزراء غلاديس بريجيكليان استقالتها من منصبها، و بالتالي ستتخلى أيضاً عن منصبها في البرلمان كنائب عن حزب الأحرار.، وسرعان ما انهالت على مواقع التواصل الاجتماعي موجة من التعليقات والتغريدات المفعمة بالحزن على قرار الاستقالة، من قبل المواطنين، مثنين على جهودها، كفاءتها، ونزاهتها. كما تمنوا عليها العدول عن قرارها.

قرار الاستقالة فاجأ الجميع و قد أتى مباشرة بعد ساعات من قرارالمفوضية المستقلة لمحاربة الفساد “أيكاك” لإستكمال التحقيق، الذي بدأ منذ حوالي سنة، في قضية النائب السابق داريل ماكغير المتهم بالفساد والتي كانت على علاقة شخصية سابقة معه. هذه اللجنة لمحاربة الفساد ستبدأ بعقد جلسات استماع عامة مع بريجيكليان، للتحقيق معها في الادعاءات التي وردت عنها، و التحقق إذا كانت على علم بالمكسب المالي الذي حققه هذا النائب السابق جراء استخدام منصبه و الاستفادة من موارد الدولة، ولم تقدم بلاغ عن سلوكه الفاسد. عندها تكون قد خرقت الثقة الممنوحة لها من قبل الشعب في ولاية نيو ساوث ويلز.

قدمت استقالتها من تلقاء نفسها، واحتراماً لناخبيها ولمواطني الولاية. لقد ذكرت في بيانها أنها اتخذت قراراً صعباً للغاية بين ليلة وضحاها، وقد شعرت بأنها مضطرة لاتخاذ هكذا قرار،  بسبب الحب والاحترام الذي تكنه لأهالي نيو ساوث ويلز، والتقدير الكبير الذي تكنه  أيضاً لمجلس وزراء الولاية. كما أوضحت أنها  كانت تطلب في مناسبات عدة من وزرائها، في حال وجدوا في موضوع ادعاء يتعلق بالنزاهة، التنحي جانباً أثناء سير التحقيق حتى تبرئتهم، وذلك للحفاظ على نزاهة الوظيفة العامة. كما أعلنت  ان هذا المعيار يجب ان يطبق على نفسها بصفتها رئيسة للوزراء إسوة بزملائها الوزراء.

بالرغم من قرار أيكاك ومن الإجراءات التي ستتخذ لاحقاً، و ما سينتج عنها، لا نستطيع أن ننكر عمل هذه اللجنة. بالمقابل لا نستطيع أن ننكر عمل رئيسة الوزراء الدؤوب، ووفاءها للولاية، إذ كانت تضع في أولوياتها رفاهية شعب هذه الولاية.

خلال مدة أربع سنوات و تسعة أشهر من مدة ولاية رئيسة حكومة نيو ساوث ويلز غلاديس بريجيكليان، كنت من المتابعين لإنجازاتها العديدة البناءة، كما كنت من المعجبين بشخصيتها الفريدة القوية، و بأدائها الحكومي الوطني. تميزت بقيادتها الحكيمة للولاية، وجهدها المتواصل إذ كانت تعمل بلا كلل ولا ملل، واضعة نصب عينيها  تقديم الأفضل للولاية و الأحسن لحياة كريمة للمواطنين. كان واضحاً وجلياً في مسيرتها حبها للعمل وخدمة المجتمع.

تحدت الصعوبات التي واجهتها بصرامة، وكانت كثيرة منها الجفاف، حرائق الغابات، الفيضانات، الجفاف، ولا سيما فترة الموجة الأخيرة من جائحة كورونا بانتشار المتحور دلتا، منذ أواخر حزيران. فأدخلت الولاية تحت إغلاق تام لإحتواء الفيروس، عزلت الضواحي عن بعضها، مما أدى لتعطيل عجلة الاقتصاد، فقدمت المساعدات المالية للموظفين ولأرباب العمل لتخطي هذه الأزمة المالية. صمدت و واجهت المظاهرات، الانتقادات و المعارضين لتدابير الإغلاق المشدد فاستعانت بالجيش الأسترالي لضمان تنفيذ الإغلاق الطويل، طبقت الغرامات عند مخالفة القيود. كما تعرضت أيضاً لهجوم شرس من جماعة المناهضين لتلقي اللقاح. لم تكترث لكل هذه الهجومات، رسمت خارطة طريق في سباق بين اللقاح والوباء، كثفت حملات التلقيح، نفذتها بحذافيرها، وانتصرت. وها نحن اليوم على مشارف الخروج من هذا الإغلاق نحو الحرية.

كانت رئيسة الوزراء زائرتنا الوحيدة والمميزة خلال كل فترة الحجر الصحي و الإغلاق التام، فكانت تدخل منازلنا في كل صباح عند الساعة الحادية عشرة. ننتظرها مع فريق عملها المؤلف من وزير الصحة، رئيسة دائرة الصحة، وقائد الشرطة، لتعلم المواطنين عن عدد الاشخاص الذين خضعوا لفحص الكوفيد وتشكرهم، عدد الاصابات الجديدة، عدد المصابين في المستشفيات، عدد الوفيات مع اعمارهم و تقدم التعازي لاهل المتوفين، وعدد الذين تلقوا اللقاح.   في الفترة الأخيرة كانت تبدو على وجهها علامات التعب والإرهاق من شدة المسؤولية الواقعة على عاتقها.

اطلالاتها اليومية للإعلان عن آخر المستجدات المتعلقة بانتشار الوباء، كانت تعطي دعماً معنوياً للمواطنين. تشجعهم على أخذ اللقاح للحفاظ على سلامتهم وسلامة أحبائهم، تطلب منهم التجاوب مع التعليمات الضرورية، تشكرهم على الالتزام بالقيود المفروضة في الولاية، كما كانت تعدهم بغدٍ مشرق للولاية، وازدهار اقتصادي في نهاية أزمة كورونا. هذا الحضور و التواصل اليومي من قبل رئيسة الوزراء ومخاطبة شعبها أساس نجاح القيادية السياسية،  فوطد وقرب العلاقة فيما بينها و شعبها، كما ان بشفافيتها وبصراحتها في عرض الأحداث  كسبت ثقة المواطن.

هذه الخطوة الصادمة من استقالة رئيسة وزراء الولاية، التي تعتبر من أهم الولايات في استراليا، أذهلتني شخصياً، أنا المتحدرة من أصول لبنانية، الشاهدة على مآسي لبنان الناتجة بأجمعها عن فساد المسؤولين، و القادمة حديثاً الى استراليا. هذه البلاد العظيمة التي تحترم وتحمي حقوق مواطنيها في كافة المجالات. هذا المشهد لم أره ولم يحدث بتاتاً في بلدي حتى في أحلك الأزمات.

هنا المفارقة والمقاربة، إذ لا نستطيع عدم المقارنة بين الاداء السياسي الاسترالي، وما يجري في لبناننا الجريح من عهر، وقاحة، فساد، وقلة احترام من قبل المسؤولين لمواطنيهم.

حدث ولا حرج، فساد ما بعده فساد، وقاحة ما بعدها وقاحة، استبداد سياسي، استغلال موارد الدولة، سرقة المال العام ، نهب أموال المودعين من المصارف، احتكار المواد الأساسية من مواد غذائية، أدوية، فيول …….وهذا كله باعتراف المجتمع اللبناني والمجتمع الدولي بمجمله. السياسيون اللبنانيون الفاسدون يتلذذون برؤية بلادهم تتدهور أكثر فأكثر، يشاهدون الازمة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ينظرون بسخرية الى وجع وقهر وذل المواطن  اللبناني الذي اصبح بمعظمه تحت خط الفقر.

سنتان من الأزمة الفعلية للبلاد ولم يعملوا على خلق خريطة طريق إنقاذ، و اتخاذ خطوات فعلية، وإصلاحات جذرية، لوقف هذا التدهور الكارثي، الذي وصلت اليه البلاد نتيجة فسادهم، الا وأنهم مصرون على البقاء في مراكزهم، متربعون على كراسيهم، مستمرون بفسادهم.، محميون بحصانتهم.

في لبنان، قرار “استقالة من منصب عام”

عن فساد أو سوء أمانة، غير موجود في قاموس الدستور اللبناني ولا في ضمير  ذهنية السياسيين، كما ان كلمة اعتذار منهم للشعب اللبناني، والاعتراف بفشلهم، أيضاً غير واردة. لا يوجد عندهم اي احترام لشعبهم ولا لناخبيهم بل همهم الوحيد السلطة والتسلط والمال.

في استراليا، موطن حقوق الإنسان، يطبق فيها القانون على المسؤول قبل المواطن ويُحاسب على أعماله وافعاله. لا حصانات ولا امتيازات لاحد من السياسيين والعاملين في الشأن العام، كالتي يتخفون خلفها ويحتمون بها في لبنان، للتهرب من المحاسبة ومن قوس العدالة، كما يجري حالياً في تحقيق إنفجار مرفأ بيروت.

يا ليت المسؤولين والسياسيين في لبنان يحذون حذو السياسيين الاستراليين، في الحفاظ على وطنهم و خدمة شعبهم، و يأخذون درساً في الاخلاق وحفظ الامانة.

سيذكرهم يوماً التاريخ، انهم أسوأ من نيرون الذي حرق روما وأنهم أعداء شعبهم، أنهم بجشعهم حرقوا، دمروا، فجروا لبنان و اضطهدوا شعبه ونهبوه.