رغدة السمّان – سدني

صباحات الجمعة غالبا ما كنت أذهب إلى ساحة المحافظة حيث تقام فعاليات و تجمعات وتشهد حركة كبيرة بسبب تواجد محطة القطار مع مواقف الباصات بقلب المدينة التي أقيم فيها للسنة السادسة …
كنت أرتاد هذا المكان في السنة الثانية لتواجدي في حسناء الجنوب سيدني، أجلس على كرسي مقابل الكنيسة الانجيلية المسيجة بشتلات الغاردينيا الفوّاحة وأشجار الجاكرندا البنفسجية الزاهرة المبهجة للنفس..
عند الظهيرة يحين موعد الفتاة وغيتارها ، طالبة جامعية بعمر الورد تقف على جانب من الساحة تغني وتعزف لتحصل على بعض المساعدة من النقود لتدفع أقساطها الجامعية..تُسعد كل مَن جلس وكل من مرّ .
تعود بي ذاكرتي التي تأبى أن تنسى !! الى أيام الجمعة في بلد الشعارات…بلد الوحدة بلد الحرية بلد الاشتراكية، أنا من كنت أقف في تحية العلم بالبدلة العسكرية أرفع علم بلادي وأضرب التحية بعينين دامعتين وقشعريرة تجري في دمائي حباً….وأردد وأهتف كل صباح في باحة مدرسة المعونة الدائمة للراهبات مع رفيقات عمري : “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”…. لم أعلم في مراهقتي المعنى الحقيقي لهذه الرسالة والشعارات….ولدت في عائلة لم تتعاطَ يوماً لا بالسياسة ولا بالأحزاب .
إلى أن بدأ الحراك وبدأت الحقائق تلوح رويداً…رويدا…..غمامة القهر،القمع، والتشتت… !
في بلد أصبحنا نمشي ونتلمّس رؤوسنا علّ شظية ما..من قذيفة ما تنسفنا، فالرصاصة التي تقتلنا عادة لا نراها ولا نشعر بها!!
إنسَ كي تستمر
إنسَ البشاعة ،الدمار،الحزن،الفقر،
الفقد،القتل ، الموت، التهجير….
هكذا أصبحنا كالعصافير التي أضاعت السرب وما كسبناه هو الذكريات الحزينة.
لا أعرف كيف ينام السفّاح ؟!
عودة إلى جلستي ودماغي الذي لا يهدأ لاحت لي امرأة تتجه نحوي بدت بابتسامة عريضة وكأنها تعرفني ..وكلما اقتربت تزداد فرحتها ..في هذه الأثناء تناولت علبة مكسرات وبدأت أتسلى ومستغربة من القادمة نحوي، وقفت قبالتي تمد يدها مشيرة إلى العلبة ومن غير شعور مني أعطيتها العلبة بكاملها…أكلت بنهم..لا تتجاوز الخمسين من العمر بملابس يبدو عليها الفوضى والتشويش والارتباك وقد جمعت الفصول الأربعة في هندامها مع بعض حمرة الخدود
وخطوط فوضوية لا علاقة لها بالتجميل ولا برونق الأنوثة والجمال وفحم تحت العيون،وفوق الجفون… وقبعة رأس بريشة الهنود الحمر مع وردة من قش …
سألتني بلغة انكليزية ركيكة : هل أنت بولونية؟….أجبتها ربما..لست أدري!
“من بلد يذبح اليمام ويسحق الياسمين ويغتال سنابل القمح”… همهمت بكلام لم تفهمه، فهي في وادٍ وأنا في واد آخر
وبدأت بالكلام….ثرثرة …وانا أستمع وهي تأكل وتثرثر…وأنا استمع …لا أدري كم مضى من الوقت حين وصلت إلى بيتي منهكة قلت ليمامتي :
إنها الغربة ..الوحدة..الفراغ…الفقد..هذه المسكينة تريد العناية تريد الإهتمام تريد أصدقاء ..هي تعيش في بلد وامها في بلد آخر، عائلتها في بلد ..ابنتها في بقعة من بقاع الأرض….
وصل القهر حدّ الإشباع في حكايانا
والسؤال الذي أسمعه كثيرا ولا جواب له: كيف ينام السفّاح وحاشيته
كم أحببت ما كتب أرسطو:علينا أن نحرر أنفسنا من الأمل بأن البحر يوماً سيهدأ ، علينا أن نتعلم الإبحار وسط الرياح العاتية.