أنطوان القزي
ليس من عادتي أن “أحشر” أحداً في شأنٍ شخصي، ولكن دلالات الأحداث والصدمات المتتالية، تجعلني أعرض ما يصادفني أمام الأصدقاء وأشاركهم التجربة الإنسانية المشرّعة على مفاجآت المدّ والجزر ..
وكما حدثتكم منذ نحو أسبوعين عن “المرتزقة الليبي” الذي صادفته في روما وأخبرني أنه قاتل في حرب السنتين في بيروت.. الى أن وقعتُ على اسمه منذ ثلاثة أسابيع مقتولاً في معركة عشائرية في مدينته مصراتا في ليبيا.
اليوم ، أحدثكم عن صديق آخر وإن اختلف المضمون والشكل.
فمساء الإثنين الماضي كنت أشاهد شريطاً وثائقياً على شاشة “أم تي في” بمناسبة الذكرى الأربعين لانفجار مرفأ بيروت.. وأثناء العرض مرّت على الشاشة أسماء شهداء انفجار المرفأ ومن بينها اسم “نقولا شديد”( الصورة) وما إن وقعت عيناي على الشاشة حتى وقفت صارخاً ، فقالت لي زوجتي :”ما بك”؟ قلت لها “: إنه التلميذ الداخلي الذي كان يجلس الى جانبي في الصف التكميلي الأول في العام الدراسي (1970-1971) في مدرسة مار شربل في الجية، واردفتْ زوجتي قائلة :” ولكن هناك مليون “نقولا شديد”!. أجبتها :” أعرف ذلك ، ولولا الصورة لما وقفت ولما صرخت ، فأنا عرفته من صورته، إنه هو، لا تزال ملامح وجه كما هي منذ خمسين سنة”.
قد تقولون كلنا لدينا أصدقاء، وما الجديد في ذلك”؟
الجديد هو أنني بقيت على اتصال مع كل اصدقائي في كل مراحل الدراسة ، منهم من أصبح عميداً في الجيش ومنهم من صار مديرأ عاماً أو رئيس بلدية، ومنهم من أصبح رئيساً عاماً كالأباتي طنوس نعمة الذي جاورني الجلوس في صف الفلسفة في الكسليك( 1977-1978) ، عدا الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال وما أكثرهم، لكنني أضعت واحداً من هؤلاء هو “نقولا شديد” وكنت أسأل في الأشرفية عنه طيلة سنوات وعبثاً أحاول.
لماذا كان اهتمامي بهذا الصديق؟ ..سأخبركم .. لأنه هرب يوماً من المدرسة الداخلية بعدما قفز ليلاً عن البوابة، لكن بعض جيران المدرسة اكتشفوا أمره وأعادوه في الصباح.. وهناك كان “الفلق” على يد مدير المدرسة آنذاك الأب باسيل ناصيف ، رحمه الله، وأكاد أقول أن آثار الفلق كانت لا تزال على قدمَي ويدَي نقولا شديد حتى وفاته.
كنا نتعاطف مع هذا التلميذ الداخلي وكنا نجلب له نحن التلامذة “الخارجيين” بعض ما يطلبه منا وما يحبه من منازلنا ..
وبسبب المناوشات التي بدأت سنة 1973 ومنها ما حصل في بلدتنا الجية بين الجيش اللبناني والعناصر الفلسطينية، سحب كثيرون من الأهل أولادهم من القسم الداخلي ومن بينهم “نقولا شديد”، الذي هاتفني مرّة واحدة بعدها ليشكرني على كل ما فعلته.. واختفى.
بالمختصر، تركته يافعاً على مقاعد الدراسة لأعثر عليه بعد خمسين عاماً شهيداً على الشاشة في عداد شهداء انفجار مرفأ بيروت وأنا على بعد 15 ألف كلم.. وهنا تذكّرت قول الشاعر طرفة بن العبد:
سَتُبْدِي لَكَ الأيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِـلاً
ويَأْتِيْـكَ بِالأَخْبَـارِ مَنْ لَمْ تُـزَوِّدِ
نقولا شديد” رحمك الله ورحم كل شهداء انفجار المرفأ وكل الشهداء الأحياء الصابرين في الوطن المعذَب!. “