بقلم: د. هبة مهتدى

هذه الرواية، أو لنقل النوفيلا، من تأليف الصديقة العزيزة والكاتبة المبدعة دينا سليم.
وقد استمتعتُ بقراءتها ودفعتني الأحداث الى التفكر في العديد من الاشكاليات الموجعة في حياة البشر، والتي من اهمها تصديق الشائعات، والانقياد القطيعي لأي شائعة حتى لو كانت بعيدة تمام البعد عن المنطق والعلم والمعقول.
استهلت الكاتبة روايتها بعبارة:
الحياة هي الحياة والفقد هو الفقد،
وبرغم بساطة تلك العبارة الا انها عميقة ومؤثرة في القاريء وكافية كي تشعرك بانقباض خفي في قلبك ووجع الفقد على كل الأحباء الذين غيبهم الموت عن حياتنا.
يزداد هذا الشعور حين تكون تلك العبارة هي اهداء من الكاتبة لروح ابنها وفلذة كبدها الراحل. وينعكس هذا فيما بعد على اجزاء عدة بالرواية اذ تمتزج احاسيس الكاتبة بمشاعرها كأم حنون تكتب تخليدًا لروح فقيدها الغالي.
بدأت الأحداث بصوت الابن ( غزال) والذي عشنا معه ومن خلاله أحداث الرواية ولعل الكاتبة ارادت بذلك تجسيد صورة الابن المحب لأسرته والحنون على امه والراعي لاخوته البنات. حكى لنا (غزال) عن ( أم النور) تلك السيدة المسنة والوحيدة والتي شاء حظها العاثر ان يرتبط وجودها ببعض الاحداث السيئة لتصبح نذير شؤم لأهالي الضيعة وتتناثر حولها الشائعات والاقاويل حتى تلقب ب ( ام الخراب) بدلا من (ام النور ).
من اجمل ما يحكيه لنا غزال هو احساسه النبيل بمشاعر البنوة واعجابه بالأم الحنون المبتسمة دومًا والتي هي البطلة الحقيقية في الرواية بما لديها من مثل وقيم عليا وبهاء وجمال واهم من كل ذلك ما اظهرته من قوة وصلابة في مواجهة العديد من المشكلات والمصائب التى حلت بمنزلها واسرتها.
ثم بدأ مرض (غزال) متزامنًا مع اكتشاف موت (ام النور) في ربط جميل من الكاتبة يوضح كيف يمكن ان تأتي المصادفات في صورة مقنعة بحيث يصدق الجميع ارتباطها ببعضها البعض. ففي هذا المشهد بدأ الفتى نفسه يتصور ان ما فعله من الاعيب وخدع لاخراج (ام النور) من منزلهم هو ما ادى الى مرضه وان هذه الآلام التى يعانيها ماهي الا انتقام روح تلك السيدة منه. بدأ الجميع يتصورون ان ما حدث للفتى ما هو سوى لعنة تلك السيدة حتى انهم وصفوه بالشيطان. وهنا يأتي منعطف هام في الرواية وهو ما حدث من توصيف نمطي (Stereotyping) ل(غزال) ذلك الفتى الوديع مم انعكس عليه ودفعه الى التصرف بعنف وعدوانية وجراءة كرد فعل لأقوال الجميع عنه. ولعلها فرصة مناسبة لتوضيح أن ما يردده الاباء او المدرسون او المجتمع على اسماع الابناء او المراهقين من مفردات سلبية واسقاطات وتسفيه لافكارهم وشخصياتهم قد تكون سببًا في ضياعهم . وكي نضرب مثلًا:
اذا قال احد هؤلاء للفتى «انت فاشل» فقد يكون رد فعل الإبن «اذن ساريكم اني بالفعل فاشل”.
او «انت كاذب» ليكون الرد « اذن لن يصدقوني ان قلت الحقيقة فلأكذب مثلما يريدون»…. وهكذا قد تدمر شخصيات الابناء.
نعود الى الرواية وكيف وصف لنا الإبن المحب والدته والتي كانت تعمل داخل المنزل وخارجه لرعاية اطفالها و كيف وقفت الى جواره حين الم به المرض العضال وسلب منه طفولته ونضارته، وكيف صبرت على ايذاء اهل الضيعة لها وانصياعهم خلف خرافات السحر والدجل وشائعات الجن التي ظل يرددها (عصام).
في المقابل يصدمنا (غزال) حين يروي نذالة الأب الذي لم يتحمل تلك الضغوط وقرر القفز من السفينة و الهرب بعيدًا بمفرده متخليا عن زوجته وابنه المريض وبناته الأخريات. هنا تتجلى المقارنة الموجعة حين يقارن الابن بين موقف والدته العظيمة وصبرها وحكمتها وموقف الوالد المخزي وكيف انه رحل ولم يترك لها مالا لابنائه معتمدا على ان الام ستتصرف من راتبها.
موقف يتكرر كثيرًا وصرنا نراه في العديد من الأسر في شتى بقاع الارض، الأب المختفي او الهارب من المسئولية او المتواجد جسدًا بلا عقل كمن غيب عقولهم الادمان والمقامرة وغيرهم كثيرون، والنتيجة واحدة ألا وهي ام تقف صامدة لتقود السفينة ببراعة وتنجو بأبنائها من الغرق.
ذكرتني تلك الأم الجميلة بالبطلة في مسلسل مصري اسمه ( وبينا ميعاد) حين هرب زوجها الى الخارج تاركًا لها مسئولية رعاية اربعة فتيات ثم عاد بعد ١٢ عامًا وبعد ان تجرعت هي مرار تربيتهن بمفردها وكل ما مرت به من مشاكل الاطفال والمراهقات من مرض ودراسة و مشاكل اجتماعية معتادة مع التربية. عاد الزوج الهارب من الخارج مصطحبا زوجته الجديدة ومعلنا ندمه ورغبته في تعويض هؤلاء الفتيات عن غيابه. هكذا ببساطة بعد ان اشتد عودهن وصرن يافعات أتى ليحصد الثمار التي تقاعس عن ريها ورعايتها حين كانت نبتات صغيرة.
ولكن الأب في روايتنا ( ضيعة القوارير) خرج ولم يعد ، تلاشى تماما كالعدم .
تصاعدت الدراما مع احداث الرواية لتظهر حادثة قتل و ملابسات عدة انتهت بمعرفة حقيقة المؤامرة المدبرة من عصام للاستيلاء على الكنوز الأثرية المدفونة اسفل منازل هذه الضيعة.
وبالتالي ظهرت الحقائق و انكشفت الاحقاد وجاءت النهاية والتي اعتبرها سعيدة من وجهة نظري.
ولكن للأسف…
يبقى النذل غائبًا في تلك الرواية وفي العديد من روايات الحياة الواقعية.
ويبقى البشر في العديد من المجتمعات ضحايا للمؤامرات والشائعات واسرى لأفكار الجن والخرافات.